بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
في هذا الكون الفسيح، حيث تتراقص المجرات في ظلام شاسع لا تدركه الأبصار، وتنتشر النجوم كأنها مصابيح موقدة في السماء، يوجد نوع من الأجرام لا يُشبه غيره في شيء. جرم صغير إلى حد الدهشة، لكن كثافته تفوق كل ما عهده الإنسان من مادة، وسطحه يسحق كل ما يقترب منه، ويكاد الزمن أن يتجمد عند أعتابه. هذا الكائن الغريب هو النجم النيوتروني، أحد أعجب مخلوقات الله في كونه، وآية شاهدة على دقة الصنعة الإلهية، وعظمة القدرة التي لا يحدها حد. وما من أحد يقف أمام هذا الجرم، ولو علميًا، إلا ويخضع قلبه قبل عقله لقوله تعالى: “وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (النحل: 8).
النجم النيوتروني ليس نجمًا في طور التكوّن أو الحياة، بل هو المرحلة النهائية لجسم سماوي مات بطريقة درامية مهيبة. تبدأ الحكاية مع نجم ضخم، يفوق كتلة شمسنا بعدة مرات، يشعّ ضوءًا وحرارة من اندماجات نووية متواصلة، يحول خلالها الهيدروجين إلى هيليوم، ثم إلى عناصر أثقل فأثقل مع تقدّم عمره. لكنه، كبقية المخلوقات، لا يملك الخلود. وعندما تنفد طاقته الداخلية، يتوقف عن توليد الضغط اللازم لمقاومة الجاذبية الهائلة في قلبه. عندها تبدأ المرحلة الحاسمة: الانهيار الداخلي.
ينهار قلب النجم على نفسه فجأة، وتنهار معه طبقاته العليا، فيحدث ما يُعرف بـ السوبرنوفا، أي المستعر الأعظم، وهو انفجار كوني عنيف يبعثر أغلفة النجم في الفضاء، ويُطلق من الطاقة ما يفوق طاقة الشمس خلال كامل عمرها، في لحظات معدودة. غير أن قلب النجم لا يتلاشى تمامًا، بل يتحول إلى حالة جديدة، كأنها ولادة ثانية، ولكن لا حياة فيها بالمعنى البشري، بل هي حالة من المادة الفائقة الغرابة. في تلك اللحظة، وتحت ضغط هائل يعادل مليارات الأطنان في كل سنتيمتر، تتحطم الذرات نفسها، وتذوب الحدود بين الجسيمات. تندمج الإلكترونات مع البروتونات مكوّنة نيوترونات، وتتحول النواة إلى كرة شبه صلبة من النيوترونات، وهكذا يُولد ما يُعرف بـ النجم النيوتروني.
وما يميّز هذا الجرم أنه صغير للغاية مقارنة بكتلته. إذ لا يزيد قطره عن عشرين كيلومترًا، أي ما يعادل حجم مدينة متوسطة، لكنه يحتوي على كتلة أكبر من كتلة الشمس. للمقارنة، الشمس تساوي حجم مليون كوكب كالأرض، ومع ذلك فإن النجم النيوتروني قد يتفوق عليها في الكتلة، وهو في حجم لا يتعدى واحدًا من عشرة آلاف من حجمها.
وهنا تكمن المفارقة التي تُذهل العقول: هذه الكتلة الرهيبة مضغوطة في هذا الحجم الضئيل، ما يعني أن كثافة مادته تصل إلى حدود غير مسبوقة في الكون، حتى قيل إن ملعقة شاي واحدة، بحجم خمسة ميليلترات، من مادته ستزن ما يزيد عن ستة مليارات طن. نعم، ملعقة واحدة فقط، توازي في وزنها وزن ألف جبل إيفرست تقريبًا، أو أكثر من كل ما استخرج الإنسان من معادن منذ بدء التاريخ. هذه ليست مبالغة أدبية أو تصويرًا شعريًا، بل حقيقة علمية ثابتة، تؤكدها الحسابات الدقيقة في الفيزياء الفلكية والنووية. وقد جاءت هذه التقديرات في كتب ومراجع علمية معتمدة، مثل كتاب:
“Black Holes, White Dwarfs, and Neutron Stars”
للعالمين شاپيرو وتيوكولسكي، فضلًا عن أرشيف الأبحاث في وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية.
ويزداد العجب عندما نعلم أن سطح هذا الجرم يتمتع بجاذبية تفوق جاذبية الأرض بما يعادل مئتي مليار مرة، بحيث إن أي شيء يقع عليه يُسحق فورًا إلى مادته الأولية، أو إلى لا شيء تقريبًا. لا يستطيع الإنسان أن يخطو خطوة واحدة هناك، بل لا يمكن لجزيء بشري أن يصمد على سطحه لجزء من الثانية. ولو رميت حبة غبار عليه، فإنها ستصطدم بسرعة تقارب ثلث سرعة الضوء بسبب الجاذبية الهائلة، ما يسبب طاقة انفجار تعادل قنبلة نووية صغيرة.
وكل هذا لا يعني أن النجم النيوتروني مجرد كتلة خاملة. بل إن بعض هذه النجوم تدور بسرعات هائلة، تصل إلى 700 دورة في الثانية الواحدة. نعم، هذا الجرم، ذو الكتلة الجبارة، يدور حول نفسه مئات المرات كل ثانية، ما يولد إشارات راديوية ونبضات كهرومغناطيسية منتظمة، تُعرف باسم النجوم النابضة (Pulsars). هذه النبضات تصل إلينا بتواتر دقيق، حتى أصبحت هذه النجوم تُستخدم في بعض الحسابات الكونية كساعات كونية فائقة الدقة.
إن هذا الانتظام المعجز، والدقة المتناهية، والتوازن بين القوى في داخل هذا الجرم الرهيب، ليدل على أن هناك من أبدع قوانينه، ونظّم طاقاته، وضبط مداراته. إنه الخالق الحكيم، الذي قال في كتابه الكريم: “اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ” (الرعد: 2).
ليس من المصادفة أن تتجمع هذه الكتلة الهائلة بهذا الشكل، وتستقر في توازن دقيق بين جاذبيتها وقوة التنافر بين النيوترونات. لو كانت الجاذبية أقوى بقليل، لانهار النجم النيوتروني وتحول إلى ثقب أسود، ولو كانت أضعف، لما استقرت مادته. هذا التوازن العجيب يؤكد ما جاء في قوله تعالى: “الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى” (الأعلى: 2–3).
بل إن بعض هذه النجوم عندما تتصادم مع بعضها، تطلق من الطاقة ما يكفي لتكوين العناصر الثقيلة كـ الذهب والبلاتين، وهي نظرية علمية حديثة تثبت أن كثيرًا من المعادن النفيسة التي نمتلكها على الأرض هي بقايا اصطدامات قديمة بين نجوم نيوترونية في مجرة بعيدة، ثم تسربت ذراتها إلى السديم الذي تشكلت منه مجموعتنا الشمسية، وهبطت يومًا على كوكبنا… أليس في هذا ما يدعو للدهشة والخشوع؟ أليس هذا التقدير الذي جعل الذهب ينبت من موت النجوم شاهدًا على عظمة الخالق؟ قال تعالى: “إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر: 49).
العلم، مهما بلغ من دقة، لا يزال عاجزًا عن إدراك كنه المادة النيوترونية بالكامل، ولا يستطيع إعادة إنتاجها في المختبرات، لأن الضغط الذي يلزم لخلقها يعادل ملايين أضعاف ما هو ممكن على الأرض. وما هذه إلا إشارة إلى أن الكون أعظم من أن يُختصر في معادلات، وأنه –كما قال القرآن– فيه من الآيات ما يُرشد العاقل ويهدي القلب، إذا ما تفكر وتأمل. قال تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ” (آل عمران: 190).
وإذا كان بعض البشر ينظرون إلى هذه الحقائق من باب الإعجاب العلمي المجرد، فإن المؤمن ينظر إليها بمنظار مختلف. يرى فيها حديثًا صامتًا عن خالق الكون، وصوتًا خفيًا يهمس: “انظر حولك، كل شيء هنا دقيق… محسوب… مقدر… لا مكان للعبث أو المصادفة”. ولعل هذا ما عبّر عنه القرآن بعبارة جامعة مانعة: “مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ” (آل عمران: 191).
وهكذا، فإن النجم النيوتروني، هذا الجرم الغريب الكامن في زوايا المجرة، يصبح في عين المتأمل أكثر من مجرد كائن فيزيائي، بل يصبح شاهدًا على الإعجاز، ودعوة للتسبيح، وعنوانًا على حدود العقل البشري أمام عظمة خلق الله. وسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.