بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في لحظة فاصلة من لحظات التاريخ البشري، اختار الله عز وجل أن يبعث خاتم أنبيائه ورسله، محمدًا صلى الله عليه وسلم، من قلب جزيرة العرب، من مكة المكرمة تحديدًا. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا اختار الله هذه البقعة الجغرافية؟ ولماذا اصطفى العرب، رغم انغماسهم في عبادة الأصنام، لهذا الشرف العظيم؟
كان العالم آنذاك يغرق في ظلمات متعددة. قوتان عظميان تتنازعان على زعامة الأرض: الفرس والروم. الفرس، بإمبراطوريتهم الزرادشتية، كانوا يعبدون النار، ويرون في ملوكهم ظلًّا للآلهة على الأرض. عاشت هذه الإمبراطورية على البطش والاستبداد، وقسمت المجتمع إلى طبقات مغلقة، عاش فيها الفقراء مسحوقين تحت نير القهر والحرمان، بينما انغمس الملوك في حياة الترف والفساد، وسادت بينهم طقوس غريبة، وتقاليد دينية شوهت جوهر التوحيد، حتى بات الدين وسيلة لفرض الهيمنة لا طريقًا للهداية.
أما الروم، فقد كانوا أهل كتاب لكنهم خرجوا عن تعاليم المسيح عليه السلام، واستعبدوا الناس باسم الكنيسة، واحتكروا فهم النصوص الدينية، وفرضوا على الشعوب مظاهر من التدين الشكلي تخفي وراءها فسادًا سياسيًا واجتماعيًا. تحالفت الكنيسة مع السلطة، وأُهملت الأخلاق، وتعمّق الظلم، واندلعت الحروب المقدسة لتخدم مصالح الطغاة لا مبادئ الدين. وكان الصراع بين الروم والفرس صراع بقاءٍ ودمارٍ، تسقط فيه المدن، وتباد فيه الحضارات، بينما تموت الإنسانية تحت أنقاض الطمع والتعصب.
وفي أقصى الشرق، كانت حضارة الهند تموج بالرموز والتماثيل، تُعبد فيها البقر والحيوانات، وتُقسّم فيها البشرية إلى طبقات قاسية لا نجاة لأحد من ظلمها إلا بالموت. المرأة كانت تُحرق مع زوجها المتوفى في طقوسٍ مأساوية، والضعفاء لا حقوق لهم، والعبادة تحولت إلى حركات خاوية من المعنى، يغلّفها الجهل وتتحكم بها الكهانة.
وفي أماكن أخرى من العالم، انتشرت عبادة الجسد والأنثى، وانهارت منظومات الأسرة، وصار الشذوذ والانحلال مباحًا بل مقدسًا، وتوارى العقل أمام الشهوة، وتقدمت الأجساد على المبادئ، وتفككت المجتمعات، وسادت الوحشية باسم الحضارة.
وفي هذا المشهد المظلم، كانت جزيرة العرب، رغم عبادة الأصنام، أرضًا مهيأة من نوع مختلف. لم تعرف الطغيان الديني، ولم تكن فيها طبقات اجتماعية متسلطة، وكانت الكلمة تُصنع في الأسواق والبيوت، لا في القصور والمعابد. عرف العرب مكارم الأخلاق، فكانوا أهل كرم ونخوة، يحمون الجار، ويغيثون الملهوف، ويعيرون الكذب والغدر، ويقدّسون العهد والوفاء. رغم جاهليتهم، كانوا يمتلكون بذورًا طيبة من الفطرة السليمة.
ومن هذا المجتمع الصلب الحر، اصطفى الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليكون حامل الرسالة وخاتم النبيين، وليخرج الناس من ظلمات الجاهلية المتلونة إلى نور التوحيد والكرامة والحرية. لم يكن العرب حينها الأقوى ولا الأغنى، لكنهم كانوا الأصدق فطرة، والأقرب إلى معاني الرجولة، والأنسب لتحمّل تبعات الرسالة.
واليوم، وبعد أكثر من أربعة عشر قرنًا على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، نجد العالم يعود إلى حال شبيه بذلك الزمن الجاهلي، وإن اختلفت الأشكال والمسميات. فالحضارات التي ترفع شعارات التقدم باتت تعبث بالفطرة، وتُعيد صياغة المفاهيم الإنسانية لتخدم مصالح المال والنفوذ. عبادة الأصنام لم تختفِ، بل تغيرت صورها: فأصبح idol اليوم نجمًا غنائيًا أو لاعبًا أو سياسيا يُتَّبع دون بصيرة. عبادة النار صارت عبادة للحروب، عبادة الشهوة أصبحت ثقافة، والانفلات الأخلاقي صار حرية مزعومة، والانحلال أضحى فنًا يُحتفى به.
العالم الحديث يملك التقنية لكنه فقد البوصلة، يعرف كيف يصنع القنابل لكنه لا يعرف كيف يصنع الرحمة، يعتلي الفضاء لكنه لا يهتدي إلى طريق السماء. والشرق الأوسط، أرض الرسالات، صار ساحة صراع على المصالح والنفوذ، تُستباح فيه الدماء، وتُغتال فيه القيم، وتُنسى فيه المبادئ التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم ليقيم بها صرح العدل والرحمة.
أمام هذا المشهد، لا بد أن نعيد اكتشاف سر هذا الاختيار الإلهي: لماذا نزل الوحي في مكة؟ ولماذا حمل العرب هذه الأمانة؟ إن الجواب لا يكمن فقط في التاريخ، بل في المستقبل أيضًا. لأن هذه الرسالة لم تكن لزمن مضى فقط، بل لكل زمان ومكان. ولأن الاختيار الإلهي لم يكن عشوائيًا، بل مبنيٌّ على استعداد داخلي، على بذرة مكارم الأخلاق، التي وجدت في قلوب العرب رغم جاهليتهم، فأنبتت شجرة عظيمة حين سقاها الإسلام.
فإذا أردنا أن نستعيد هذا المجد، فلنرجع إلى تلك البذور الطيبة: الصدق، الكرم، النصرة، الحياء، الغيرة على العرض، حب العدل، ونصرة المظلوم. لنُحيِ تلك الأخلاق التي هيأتنا لحمل النور، ولنُصلِح ما أفسدته المدنية الزائفة. فليس شرف النبوة في نسب أو قوم، بل في حمل الرسالة وأداء الأمانة.
إن الله قد اختارنا مرة، وهو لا يظلم أحدًا. لكن استمرار هذا الشرف مرهون بصدقنا، وأمانتنا، وقدرتنا على حفظ العهد. فهل نكون أهلاً له من جديد؟ أم نترك الراية تسقط من أيدينا ونحن ننشغل بمعارك الهوى والزيف؟
إنها دعوة للتأمل والتوبة والعمل… لعل الله يعيد لنا بعضًا مما كان