خطبة بعنوان ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ لفضيلة الدكتور أيمن حمدى الحداد


خطبة بعنوان ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
لفضيلة الدكتور أيمن حمدى الحداد

عناصر الخطبة

♦أولاً: أهمية الزواج وبناء الأسرة.
♦ثانياً: الإلتزام بالحقوق والواجبات.
♦ثالثاً: أهمية التراحم بين الزوجين.

نص الخطبة:
الحمد لله رب العالمين الذى خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله الله ورسوله،
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه حق قدره ومقداره العظيم، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين ومن أتبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: إن بناء الأسرة أعظم بناء فى هذه الحياة، لأن به يتم التكاثر وعمارة الكون، لذلك كان عقد الزواج من أوثق العقود التى يجب أن تصان وتحترم؛ قال تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾(النساء: ٢١)، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «النِّكَاحُ من سُنَّتِي فمَنْ لمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَليسَ مِنِّي، وتَزَوَّجُوا؛ فإني مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ، ومَنْ كان ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ،

ومَنْ لمْ يَجِدْ فَعليهِ بِالصِّيامِ، فإنَّ الصَّوْمَ لهُ وِجَاءٌ» رواه ابن ماجه.
لكن بات من المؤسف ما نسمع به من كثرة حالات الطلاق والتفكك الأسرى؛ والذى يذهب إلى دور محمكة الأسرة يعتصر قلبه ألماً، لما يرى من كثرة الطلاق بين المتزوجين حديثاً، وعندها يشعر بالحزن والآسى، لما وصلت إليه أحوالنا، لقد أصبحنا فى حيرة من أمرنا كيف صرنا إلى هذا الوضع المخجل؟! وكيف أصبح الطلاق من أسهل ما يكون مع علمنا يقيناً بآثاره السلبية على كل أفراد الأسرة، إننا نتسأل ما الذى حدث لمجتمعنا؟! وما هي الدوافع وراء تصدع البيوت وتفكك الأسر؟! إن السبب يكمن في جهل البعض بالقيم الإسلامية والحضارية التى من أجلها شُرع الزواج وفي مقدمتها ما يلي؛

♦أولاً: أهمية الزواج وبناء الأسرة؛ ترجع أهمية الزواج وبناء الأسرة فى الإسلام إلى معانٍ راقية وإنسانية من ذلك؛

– الزواج من أجل النعم التي أنعم الله بها على خلقه، وإذا كانت نِعَمَ الله عز وجل علي الناس كثيرةٌ ومتتابعة بتتابُع الليل والنهار؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم: ٣٤)، فإن الزواج من أهم هذه النِّعَم العظيمة الجليلة.
– والزواج آيةٌ من آيات ربنا جل وعلا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: ٢١)،

– والزواج من سنن الأنبياء والمرسلين؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾(الرعد: ٣٨)، وَعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوتِ أزواجِ النَّبيِّ ﷺ يسأَلون عن عبادةِ النَّبيِّ ﷺ فلمَّا أُخبِروا كأنَّهم تقالُّوها فقالوا: وأينَ نحنُ مِن النَّبيِّ ﷺ قد غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه وما تأخَّر؟! قال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلِّي اللَّيلَ أبدًا وقال الآخَرُ: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِرُ وقال الآخَرُ: أنا أعتزِلُ النِّساءَ ولا أتزوَّجُ أبدًا فجاء رسولُ اللهِ ﷺ فقال: «أنتم الَّذي قُلْتُم كذا وكذا ؟ أمَا واللهِ إنِّي لأخشاكم للهِ وأتقاكم له لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ وأُصلِّي وأرقُدُ وأتزوَّجُ النِّساءَ فمَن رغِب عن سنَّتي فليس منِّي» رواه بن حبان.

– الزواج ستر للزوجين، ووقاية، وحصن لكل منهما من الوقوع فيما حرَّم الله عز وجل؛ قَالَ تَعَالَى:
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾(البقرة: ١٨٧)، وقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(الإسراء: ٣٢)، وعن ابنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» رواه البخاري ومسلم.

– الزواج سكن ومودة؛ فكما أن الإنسان يتَّخذ المسكن، ليستتر به، ويتَّقي به من الحرَّ والبرد وغير ذلك، فإن المرأة تكون سكناً لزوجها، يطمئن إليها، ويجد في قُرْبها الأُنْسَ والراحة، وكذلك فإن الرجل يكون سكناً للمرأة، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ (الأعراف: ١٨٩)،

– الزواج سبب للسعادة والإعانة على الطاعة؛ فعن سَعْدٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ» رواه بن حبان.

وعن عَبدِاللهِ بنِ عَمرو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» رواه مسلم.

– الزواج سببٌ للغِنى وكثرة الرزق؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (النور: ٣٢)،
قَالَ أَبُو بَكرٍ رضي اللهُ عنه: أَطِيعُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَكُم بِهِ مِنَ النِّكَاحِ، يُنْجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم مِنَ الغِنَى.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: رَغَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّزوِيجِ، وَأَمَرَ بِهِ الأَحرَارَ وَالعَبِيدَ، وَوَعَدَهُم عَلَيهِ الغِنَى؛ فَقَالَ: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(النور: ٣٢)، والذي يريد العفاف مُعَانٌ في نكاحه؛ فعن أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» رواه الترمذي.

– الزواج من أعظم ثماره إنجاب الذرية الصالحة؛ قال تعالى عن زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾(آل عمران: ٣٨)، وعن أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم.
– والزواج من ثمراته تكثير سواد أُمَّة سيدنا رسول الله ﷺ فالأمة كلما كثرت، حصل لها من العِزَّة والهيبة ما لا يحصل لها في حال القلة، ولهذا امتنَّ الله على بني إسرائيل بالكثرة؛ قال تعالى:﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾(الإسراء: ٦)، وذكَّر شعيب قومه بذلك؛ قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾(الأعراف: ٨٦)، وعن مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: «لَا»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» رواه أبوداود.

♦ثانياً: الإلتزام بالحقوق والواجبات؛ فيجب أن يعلم كل طرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات من ذلك؛
– تلبية الاحتياجات الأساسيّة؛ لقد عُنى الإسلام بهذا الجانب، وجعله من أهم الحقوق الواجبة على الرجل تجاه أهله وولده، فالنفقة، والكسوة، والسكن بالمعروف، من الحقوق التى أمر الله بها؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: ٢٣٣)، وقال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾(الطلاق:٧)، وعن ثوبان رضى الله عنه قال رسول الله ﷺ: «أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله» رواه مسلم.

وعن جابر رضي الله عنه قال ﷺ: «اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه الترمذى.

وفي المقابل يبنغى للمرأة مراعاة ظروف زوجها حال التعسر المادى أو ضيق ذات اليد فتتحلى بنوع من الصبر والجلد ولتكن عوناً لزوجها فى تخطى ما تمر به الأسرة من أزمات، ولقد كانت أمهات المؤمنين يصبرن على شظف العيش مع سيدنا رسول الله ﷺ، ولقد خيَّرهن الله؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(الأحزاب: ٢٨-٢٩)، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فينبغي للمرأة أن تصبر على حال زوجها، وأن تصبر على شظف العيش كما صبرت أمهات المؤمنين، وهذه رسالة للجميع إذا أردتم تحقيق السعادة الأسرية فعلى كل طرف أن يلتزم بواجباته تجاه الطرف الآخر فكما أن له حقوق فعليه واجبات.
وفى حين نجد أن بعض الأسر تعانى مشاكل مادية صعبه فلا تكاد تجد الكفاف نسمع أن من ولاه الله أمرها يشرب المخدرات أو يتلف المال بوسائل غير مشروعة، وهذا تضيع للأمانة؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.

وعنه قال رسول الله ﷺ: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع مَن يعول» رواه أبو دواد.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَين حتَّى تَبلُغَا جاء يَومَ القِيَامَة أَنَا وَهُو كَهَاتَين» وضَمَّ أَصَابِعَه، رواه مسلم.

والعول في الغالب يكون بالقيام بمؤونة البدن، من الكسوة والطعام والشراب والسكن ونحوه.

– تبادل الحب والمودة بين الزوجين؛ فهذا مساوي لأهمية توفير الحاجات الأساسية؛ ولقد اقتضتْ حكمة الله عزّ وجل أن يجعل لكل من الزوجين ميلاً فطرياً للآخر، فإليه يسكن، وبه يأنس؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾(الروم: ٢١)، ولقد كان سيدنا رسول الله ﷺ يراعى ميول وحاجة النفس إلى شيء من التسرية والسمر فيجلس مستمعاً إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما كانت تقص عليه حديث النسوة اللاتي جلسن وتعاقدن على ألا يكتمن من خبر أزواجهن شيئًا، وهو حديث أم زرع المعروف، فكان ﷺ حريصاً كُلّ الحرص على إدخال الفرح، والسرور على زوجاته، ويتعامل مع كُلّ واحدةٍ منهنّ بما يُناسب عُمرها، وميولها، وكان يمازح نساءه في السراء، ويواسيهن في الضراء، وكان يسمع شكواهن، ولا يجرح مشاعرهن، بل كان يتحمل منهن الأذى، وما ضرب بيده امرأة قط، فبمثل هذا الأدب النبوى الرفيع نستطيع أن نملأّ بيوتنا سعادة ووئام، وهذه رسالة لنا جميعاً فإذا أردنا أن نجد فى بيوتنا السكن والراحة فعلينا أن نتحقق بحال سيدنا رسول الله ﷺ مع أهله من رقة المشاعر والأحاسيس؛ فعن عائشة قالت: «كانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِي رَسولُ اللَّهِ ﷺ وأَنَا أنْظُرُ، فَما زِلْتُ أنْظُرُ حتَّى كُنْتُ أنَا أنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ» رواه البخارى.

وعنها قالت: «كنتُ ألعبُ بالبَناتِ عندَ رسولُ اللَّهِ ﷺ في بيتِهِ – وَهُنَّ اللُّعَبُ – وَكانَ لي صواحبُ يلعبنَ معي وَكانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ إذا دخلَ يتعمعن – يَستخفينَ هيبَةً منهُ – فيسرِّبُهُنَّ إليَّ فيلعَبنَ معي» رواه البخارى.

– بناء الشراكة الزوجية؛ فمن أهم ما يحافظ على استقرار الأسرة هو تبادل الأفكار والبحث عن مساحة مشتركة فيما يتعلق بالقيم والأهداف والأفكار ووجهات النظر، وفهم احتياجات الطرف الآخر العاطفية والنفسية والعمل على إشباعها، ويكون ذلك من خلال المعاشرة بالمعروف؛ لقد كان سيدنا رسول الله ﷺ أعظم من يحتذى به فى المعاشرة بالمعروف مع أهله كيف لاوهو القائل: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» رواه الترمذى.

لقد امتثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  قول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـٔا وَیَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِیهِ خَیۡرا كَثِیرا﴾ (النساء: ١٩)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» رواه البخارى.

ولقد وصفت حسن عشرته لأهله فقالت: «كان رسول الله ﷺ ألينَ الناس وأكرم الناس، كان رجلًا من رجالكم إلا أنه كان ضحَّاكًا بسَّامًا، كان بشرًا من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاتَهُ، ويخدم نفسه، كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، وكان يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم» رواه أحمد.

وإن المتأمل فى أحوال الناس يجد أن المجتمع يأن ويشتكى من كثرة عدد حالات الطلاق فى عصر قل فيه الوفاء بين الأزواج فمع أقل وأتفه الأسباب يقع الشقاق وتنهى الحياة الأسرية وتطوى صفحاتها بمأساة كارثية.

وإذا سألت عن السبب فمعلوم أنه يكمن فى مخالفة الناس لهدى النبى ﷺ وعدم الإلتزام بأخلاقه، ولا سبيل للخروج من تلك الأزمات إلا بالعودة إلى التحلى بحسن العشرة، والتمسك بأحوال سيدنا رسول الله ﷺ فى تعامله مع أهله فى شتى جوانب الحياة، فكان يتحلى ﷺ برقة المشاعر والعواطف، لأن من أخطر أسباب هدم البيوت، وتدمر العلاقات الجفاء، والغلظة، وإهمال العواطف، وعدم مراعاة الحالة النفسية عند التعامل، ولقد أهتم رسولنا الكريم ﷺ بهذا الجانب عند تعامله مع أهله فرغم همومه الكبيرة، و مشاغله الكثيرة، في نشر الدعوة، وإقامة الدين، فضلاً عن تعلقه بربه، وحرصه على دوام عبادته بالصيام، وتلاوة القرآن، وذكر الله عزّ وجل، وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه من طول القيام، رغماً من هذا كله، لم يغفل حق أهله عليه، من رقة المشاعر والعواطف التي لا يغني عنها الطعام، ولا الكساء، فكان يقول لعائشة رضى الله عنها: «إني لأعرف غضبك من رضاك ! قالت: وكيف تعرفه؟ قال: إذا رضيت قلت: لا، وإله محمد، وإذا غضبت قلت: لا وإله إبراهيم. قالت: صدقت، إنما أهجر اسمك» رواه البخارى.

– ترسيخ الأخلاق والقيم النبيلة وعلى رأسها العدل؛ والمتأمل يجد أن العدل هو الأساس الذى كان سائداً في بيت النبيّ ﷺ، حيث كان يعدل بين زوجاته بالمبيت، والنفقة، وحُسن العشرة؛ سواءً كان في الحضر، أو السفر، وقد جعل لكلّ واحدةٍ مِنهنّ حُجرة خاصّة بها، إضافة إلى أنّه كان يبيت عند كلّ واحدة منهنّ ليلة، ويُوزّع ما يكون معه بينهنّ بالتساوي، وفي حال سفره يُقرع بينهنّ قُرعة، فتسافر معه التي يخرج اسمها فيها، وأمّا في حجّة الوداع، فقد أخذهنّ كلهنّ، فلمّا اشتدّ عليه المرض، أستأذن أزواجه في أن يُمرّضَ في حُجرة عائشة فأَذِنّ له، وعلى الرغم من ذلك، إلّا أنّ النبيّ ﷺ كان يعتذر إلى الله فيما لا يستطيع العدل فيه، وهو المَيل القلبيّ، لأنهّ لا يملكه، فإن هذا غير مستطاع قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(النساء: ١٢٩)، لكن يجب العدل في المَبِيت، والنفقة، وغير ذلك من الأمور المستطاعة، وفي هذا أبلغ رسالة لكل من يبحث عن السعادة الأسرية فليكن العدل هو رائد تلك الحياة، ونلتزم سنة سيدنا رسول الله ﷺ فى العدل مع أهله.

– التشاور بين الأزواج؛ لقد كان من مراعاة سيدنا رسول الله ﷺ لمشاعر أزواجه أنه كان يشاورهنّ، ويهتم بآرائهنّ من ذلك مُشاورته أُم سلمة رضي الله عنها في صُلح الحُديبية عندما أمر الصحابةَ بالتحلُّل من إحرامهم، فلم يقم أحدٌ منهم، فاستشار أُم سلمة في ذلك، فقالت له: «اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَدًا منهمْ كَلِمَةً، حتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَدًا منهمْ حتَّى فَعَلَ ذلكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، ودَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذلكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا» رواه البخارى.

وأيضاً فإن من المحافظة على المشاعر واستقرار الحياة الأسرية عدم نشر أسرار الحياة الزوجية، فلا شك أن ما يحدث بين الزوجين من أمور الاستمتاع، هو من الأمانة التي يجب حفظها ويحرم إفشاؤها، فعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُسِرَّهَا» رواه مسلم.
لذلك يجب علينا جميعاً العمل على تطوير العلاقات الأسرية وتعزيزها وذلك ببناء الثقة والاحترام المتبادل، وتقدير الرأي الآخر والاستماع لمشاكل الآخرين والتحدث بشكل مفتوح وصريح.
فاتقوا الله عباد الله: واجعلوا علاقاتكم الأسرية قائمة على المودة والرحمة؛ أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: إن الأسرة هي حَجرُ الأساسُ في تكوين أى مجتمع ونشأته، فالأسرة بالنسبة للمجتمع كالخلية داخل الجسم، فينبغى أن يحرص الزوجان على التواصل المستمر بينهما من أجل تعزيز الترابط والتماسك الأسرى، ولحل ما قد تتعرض له الأسرة من مشكلات أو أزمات.
♦ثالثاً: أهمية التراحم بين الزوجين؛ إن التواصل القلبي ينشط أي تواصل آخر، ولقد أعطى الإسلام كل ما هو قلبي فكري واعتقادي الأولوية على غيره من الجوانب الأخرى؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(الروم: ٢١)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبى ﷺ قال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» رواه مسلم.
فعندما يكون الارتباط القلبي قوياً ومؤسساً على وشيجة الإيمان والأخلاق، فإنه يفتح القلوب ويعين على تقبل أى نقص يوجد في الجوانب الأخرى.

– إن التواصل المستمر بين الزوجين يتخذ عدة أشكال تواصلية، كالحوار والتشاور والتفاهم والإقناع والتوافق والاتفاق والتعاون والتوجيه والمساعدة، لذلك فإن الحوار بين الزوجين عامل أساسى لعلاقات حميمة بعيدة عن التفرق والتقاطع، وكذلك فإنه يُساعد على نشأة الأبناء نشأة سوية صالحة، وله قيمة حضارية للمجتمع بأكمله، لأنه يجعل من الأسرة كالشجرة الصالحة التي لا تثمر إلا ثماراً صالحة طيبة.

– وفي حالة الشقاق وهي المرحلة الأخطر من الخلاف بين الزوجين، مع التأكيد على ضرورة عدم نشر النزاعات خارج حدود البيت قدر الإمكان، فإذا وصل الأمر إلى حد لا يمكن معه كتمان الخلافات وجب على الزوجين اللجوء إلى تحكيم حكمين من كلا الطرفين لوضع نهاية للخلافات يخرج معها الجميع بالصلح والصفاء عملاً بما أرشدنا إليه القرآن الكريم من أهمية التواصل والحوار؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾(النساء:٣٥)،

– ويجب أن يلتزم كل طرف بمعانى الإخلاص والصدق فى طرح المشكلة، وليكن هدفه هو الوصول إلى حل لا إلى توسيع دائرة الخلافات، والإنتصار لرأيه ونفسه حتى لو كان ذلك من خلال تصدير صورة مشوة عن الطرف الآخر

فليتق كل طرف ربه جل وعلا فيما يقول، وليغلب الإيجابيات لدى الطرف الآخر عملاً بقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾(البقرة: ١٨٧)،

وقال تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾(النساء: ٢١)،
– والعجب عندما يمعن البعض فى كشف ما ستره الله عز وجل من أسرار البيوت، فى محاولة للإنتقام للذات ضارباً بالعشرة عرض الحائط.

– ويُعد عدم التعامل بنضج بين الأزواج من أخطر أسباب تضخيم المشاكل، وقد يجعلها تصل إلى طريق مسدود، فقد يتسرع البعض فى إتخاذ قرار الطلاق بيد أنه لو تروى قليلاً ربما حُلت المشكلة. لذلك شدد ديننا الحنيف على أهمية استقرار الأسرة والبعد بها عن كل ما من شأنه أن يؤدى تفككها وإنهيارها بل وحذر من طلب الطلاق بغير وجه حق؛ فعن ثوبان مولى سيدنا رسول الله ﷺ، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أيُّما امرأةٍ سألَتْ زوجَها طلاقَها في غيرِ ما بَأْسٍ؛ حرام عليها رائِحَةُ الجنةِ» رواه أبو دواد.

فيجب التعامل مع المشاكل بنضج، لضمان سير العلاقة الزوجية بطريقة صحيّة وسليمة.
فاتقوا الله عباد الله: واجعلوا من التواصل والحوار البناء أساساً لقوة وتماسك العلاقات الأسرية لتحافظوا الميثاق الغليظ الذى أخذه الله عز وجل عليكم.

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

وأقم الصلاة

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٢٥ ذى القعدة ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ٢٣ من مايو ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً