التوسل في المذهب الحنبلي بين الفهم الصحيح والانحراف المعاصر
2 نوفمبر، 2025
شبهات حول قضايا التصوف

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حسين حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
تمهيد
يُعَدّ باب التوسل والاستغاثة من المسائل التي ثار حولها الجدل في العصور المتأخرة، رغم وضوح موقف السلف الصالح وعلماء المذاهب الأربعة منه. فالأئمة المتقدمون من الفقهاء والمحدثين كانوا على كلمة سواء في جواز التوسل بالنبي ﷺ وبالصالحين، ما دام ذلك على وجه التعظيم والمحبة وطلب القرب إلى الله تعالى، لا على وجه الاستقلال بالنفع والضرّ.
غير أن طائفة من غلاة المتشددين ممن زعموا الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، خرجوا عن منهج السلف، فأنكروا التوسل، بل جاوزوا حدّ الإنكار إلى تكفير المتوسلين، وعدّوا ذلك من الشرك الأكبر، متناسين إجماع الأمة ووضوح النصوص، ومخالفة هذا الغلوّ لروح الشريعة ومقاصدها.
التوسل في اللغة: اتخاذ الوسيلة، وهي ما يُتقرّب به إلى غيره.
وفي الشرع: طلب القرب من الله تعالى بسببٍ مشروع، كالإيمان والعمل الصالح، أو بدعاء رجل صالح، أو بجاه النبي ﷺ وذاته الشريفة.
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].
قال الإمام ابن كثير (ت 774هـ): “أي تقرّبوا إليه بالأعمال الصالحة التي ترضيه.”
فدلّت الآية على أن الوسيلة ما يُتقرّب به إلى الله، سواء كان من العمل أو من الأشخاص الذين أكرمهم الله
مذهب الإمام أحمد بن حنبل في التوسل
نُقل عن الإمام أحمد نفسه، وعن كبار أصحابه، ما يثبت جواز التوسل بالنبي ﷺ، واستحبابه في الدعاء، وهو ما نصت عليه كتب المذهب المعتبرة.
نصّ الإمام أحمد
قال المروذي: “سألت أبا عبدالله – يعني الإمام أحمد – عن الرجل يمسّ منبر النبي ﷺ ويتبرك به ويمسّ القبر، فقال: لا أرى بذلك بأسًا.”(رواه ابن مفلح في الآداب الشرعية، 2/285).
وفي رواية أخرى عنه: “يتوسل بالنبي ﷺ في دعائه.”
(نقله المرداوي في الإنصاف، 2/456).
فهذان النصان يقطعان بأن الإمام أحمد لا يرى التوسل شركًا، بل يعدّه من وسائل التقرّب المأذون بها.
التوسل ومداره على حسن الاعتقاد
إنّ التوسل أو الاستغاثة بالنبي ﷺ أو بالصالحين مدارُه حسنُ الظنّ بالله تعالى؛ فالمسلم لا يعتقد أن النبي ﷺ أو الولي يملك نفعًا أو ضرًّا بذاته، وإنما يرى فيهم وسيلةً وسببًا أذن الله به لعباده الصالحين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].
ومن هنا فهم العلماء أن قول المسلم: يا رسول الله، أو يا سيدي فلان، إنما هو بمعنى اللهم بجاه نبيك أو ببركة وليك، أي على سبيل التوسل لا التأليه.
وقد بَيَّن هذا المعنى الإمام يوسف النبهاني في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق ﷺ، وهو كتاب نال تقدير كبار علماء الأمة وشيوخ الأزهر ومفتي الديار الإسلامية، حتى صار من أوثق المراجع في هذا الباب.
موقف أئمة الحنابلة قبل ابن تيمية
لقد كان مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه واضحًا في جواز التوسل بالنبي ﷺ، بل في استحبابه، وهو ما نقله عنه كبار الحنابلة في كتبهم المعتمدة.
قال الإمام أحمد في “منسكه” الذي كتبه للمَرُّوذي: “إنه يتوسل بالنبي ﷺ في دعائه”.
وقد نصّ على هذا جمع من أئمة المذهب، منهم:
ابن مفلح في الفروع (3/229)،
المرداوي في الإنصاف (5/420)،
والبهوتي في كشاف القناع (2/68)،
وصاحب المبدع (2/27)،
وغيرهم من كبار فقهاء الحنابلة.
شواهد التوسل عند أئمة المذهب
1. الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ)
قال في زيارته للروضة الشريفة: “اللهم إني أتوجه إليك بنبيك ﷺ نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي.”
(التذكرة في الفقه، ص117)
وهذا نصّ صريح في التوسل والاستغاثة، يدل على جريان هذا الفهم عند متقدمي الحنابلة.
2. الإمام ابن أبي يعلى (ت 526هـ)
روى في طبقات الحنابلة (1/382) أن معروفًا الكرخي قال: “إذا كانت لك إلى الله حاجة فتوسل إليه بي.”
وقد نقل ذلك دون إنكار، مما يدل على إقرار العلماء لهذا الفعل واعتباره من قبيل المشروع المأذون به.
3. الإمام السامري الحنبلي (ت 616هـ)
قال في المستوعب (1/525): “اللهم إني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي.”
4. الإمام ابن قدامة المقدسي (ت 620هـ)
قال في المغني (3/479): “وقد أتيتك مستشفعًا بك إلى ربي، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته.”
وهذا دليل واضح على جواز التوسل بالنبي ﷺ بعد وفاته، وهو من أوثق نصوص المذهب.
5. الإمام أبو طالب العبدلياني الحنبلي (ت 684هـ)
قال في الحاوي في الفقه على مذهب الإمام أحمد (ص443):
“يُباح التوسل بالصلحاء.” وقد بيّن أن هذا الحكم يشمل الأحياء والأموات من أهل الصلاح، إذ كلاهما سبب ووسيلة، لا فاعل مستقل.
6. الإمام ابن المنجى التنوخي الحنبلي (ت 695هـ)
قال في الممتع شرح المقنع: “من زار قبر النبي ﷺ وقال: اللهم إني جئتك مستغفرًا مستشفعًا بك إلى ربي.”
ثم أورد قصة الأعرابي الذي أتى قبر النبي ﷺ وقرأ قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64]،
فبشّره النبي ﷺ في المنام بأن الله قد غفر له، فكانت هذه الحادثة شاهدًا قويًا على مشروعية التوسل.
7. الإمام المِرْداوي (ت 885هـ) قال في الإنصاف (2/456):
“يجوز التوسل بالرجل الصالح على الصحيح من المذهب، وقيل: يستحب. قال الإمام أحمد: المروذي يتوسل بالنبي ﷺ في دعائه.”
حقيقة موقف المذهب
من تأمّل نصوص أئمة الحنابلة قبل ظهور دعوة ابن تيمية والوهابية، وجد اتفاقهم على جواز التوسل بالنبي ﷺ وبالصالحين، بلفظ التوسل أو الاستغاثة، كقولهم:
“اللهم إني أسألك بنبيك محمد ﷺ.”
أو “يا رسول الله، إني أتيتك مستغفرًا مستشفعًا بك إلى ربي.”
ولم يُعرف عن أحدٍ من أئمة المذهب إنكارٌ لذلك أو وصفه بالشرك، بل عدّوه من الوسائل المباحة إلى رحمة الله تعالى، المستندة إلى نصوص الكتاب والسنة، وفهم السلف.
أما من جاء بعدهم من خوارج العصر فخالفوا ما عليه جمهور الأمة، فأنكروا ما أجمع عليه السلف، وزعموا أن التوسل شرك، فابتدعوا في الدين ما لم يقله أحد من الأئمة الأربعة.
موقف ابن تيمية وتلامذته
خالف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتقدمين من الحنابلة في بعض صور التوسل، فميّز بين التوسل بالذات والتوسل بالدعاء والعمل، فأجاز الثاني ومنع الأول، وعدّه بدعة لا شركًا، فقال: “وأما التوسل بذات النبي ﷺ فلا أعلم أحدًا من الصحابة فعله بعد موته.” (الرد على البكري، ص68).
لكنّ تلامذته ومن جاء بعده من الوهابية توسعوا في الإنكار، فعدّوا التوسل شركًا أكبر، وخالفوا بذلك منهج الإمام أحمد وأقوال أئمة المذهب، إذ لم يقل أحد من الحنابلة بأن التوسل شرك، وإنما غايته أنه خلاف الأولى أو بدعة غير مكفرة عند بعض المتأخرين.
الفهم الصحيح للتوسل.
إن التوسل المشروع يقوم على تحقيق التوحيد لا نقضه، لأن المسلم حين يقول: اللهم بجاه نبيك، أو ببركة عبدك الصالح، لا يعتقد أن النبي ﷺ أو الولي يملك نفعًا أو ضرًّا بذاته، بل يرى فيه سببًا لرحمة الله، كما يتوسل المرء بدعاء الصالحين وهم أحياء.
وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:“إنه يأتيكم أويس بن عامر من مراد… فاستغفروا له.”(رواه مسلم).
وهذا توسل بدعاء الصالحين، أقرّه النبي ﷺ بنفسه.
الانحراف المعاصر
ظهر في القرنين الأخيرين تيار متشدد زعم أن كل من قال: يا رسول الله، أو بجاه نبيك، فهو مشرك، وعدّ زيارة القبور والتوسل بالأولياء شركًا يناقض التوحيد.
وهذا الفهم مخالف لروح المذهب الحنبلي ولسائر المذاهب الأربعة، ولإجماع الأمة عبر القرون.
قال الإمام السبكي الشافعي ردًّا على من كفّر المتوسلين:
“التوسل بالنبي ﷺ جائز في حياته وبعد موته باتفاق المسلمين، ومن أنكر ذلك فهو المبتدع.”(شفاء السقام في زيارة خير الأنام، ص120).
ضوابط التوسل المشروع
♦أن يكون التوسل طلبًا من الله تعالى وحده لا من المخلوق استقلالًا.
♦أن يكون بالأسباب المأذون بها شرعًا: كالأعمال الصالحة، أو بجاه النبي ﷺ.
♦أن يخلو من مظاهر الغلو كاعتقاد التأثير الذاتي للمخلوق.
الخاتمة
إن التوسل المشروع لا ينافي التوحيد، بل هو تحقيق للتوحيد؛ لأن المتوسل يقرّ بأن الله وحده هو المؤثر الحقيقي، وأن الأنبياء والأولياء وسائل وأسباب إلى رحمة الله، كما جعل الله الدعاء، والصدقة، وصلة الرحم من الأسباب لنيل الخير والبركة.
فالخلاف في التوسل ليس عقديًا بل فقهيٌّ، ومن رماه بالشرك فقد خالف منهج السلف، وضيّق ما وسّعه الشرع.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وردّنا وأهل الغلو إلى سواء السبيل، برحمتك يا أرحم الراحمين.