حكم مسّ المصحف للحائض أو النفساء – وجهة نظر جديرة بالتدبّر
20 سبتمبر، 2025
قضايا شرعية
بقلم الدكتور : محمد فهمي رشاد
مدرس التفسير وأصول الفقه بجامعة القصر الدولية بدولة ليبيا
مضت أيّام وليالٍ طويلة حرمنا فيها من قراءة القرآن الكريم أو مسّه لعِلّة الحيض، وسبحان الله، كما هو معتاد فإن المذهب المتصدر للعامة هو القاضي بالتحريم، رغم أنّ المسألة خلافية يتجاذبها ثلاثة أقوال لأهل العلم، ولا أدري ما علّة تصدير هذا الرأي وإغفال باقي الأقوال في المسألة. وفي السطور التالية، وبعيدًا عن السرد المنهجي لمسائل الفقه، وبخلاصة موجزة ودقيقة، أكشف النقاب عن حكم هذه المسألة:
المسألة – بغاية الاختصار والدقّة – يتجاذبها ثلاثة أقوال لأهل العلم، والسبب في اختلافهم يرجع إلى تردّد مفهوم قوله تعالى:
﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ بين أن يكون المطهَّرون هم بنو آدم، وبين أن يكونوا هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهومه النهي، أو أن يكون خبرًا لا نهي فيه. فمن فهم من لفظ (الْمُطَهَّرُونَ) بني آدم، وفهم من الخبر النهي، قال: لا يجوز أن يمسّ المصحف إلا طاهر. ومن فهم منه الخبر فقط، وفهم من لفظ (الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة، قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مسّ المصحف، وإذا لم يكن هناك دليل لا من كتاب ولا من سنّة ثابتة، بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة.
الأقوال هي:
القول الأوّل: وهو قول الجمهور، حيث حرّموا على المحدث حدثًا أكبر – حيضًا كان أو نفاسًا أو جنابة – مسّ المصحف، وأجاز بعضهم مسّه إذا كان في جراب خاص به. وهذه تفاريق لا دليل على صحّتها لا من قرآنٍ ولا من سنّةٍ – لا صحيحةٍ ولا ضعيفة – ولا من إجماعٍ ولا من قول صاحب. ولئن كان “الجراب أو الخُرج” حاجزًا بين الحامل وبين القرآن، فإن اللوح الذي عليه القرآن وظاهر الورقة حاجزٌ أيضًا بين الماسّ وبين القرآن، ولا فرق.
وعمدة هذا القول في الاستدلال قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾. وممّا استدلّوا به أيضًا: قصة إسلام عمر، وفيها: “أنّ أخته قالت له قبل أن يُسلم: إنك رجسٌ ولا يمسّه – أي القرآن – إلا المطهَّرون…”، رواه أحمد، وفي إسناده مقال، وللقصة طرق وروايات أخرى كلّها معلولة.
القول الثاني: وهو للسادة المالكية، حيث أجازوا للمرأة الحائض والنفساء فقط مسّ المصحف، ولكن بحائل كثيف (فوطة أو قفاز)، مع تقليب أوراق المصحف بعود أو قلم، وذلك لغرض التعليم والتعلّم، كأن تكون طالبة وتحتاج الحفظ والقراءة حتى لا تنسى، أو معلمة لا تستغني عن لمس القرآن الكريم.
القول الثالث: وهو لأنس بن مالك وسعيد بن جبير، وانتصر له المحقق ابن قيم الجوزية وشيخه ابن تيمية، حيث قالوا: يجوز للمحدث حدثًا أصغر أو أكبر – حيضًا أو نفاسًا – مسّ المصحف بدون حائل، وجعلوا الطهارة في لمس المصحف للمحدث مستحبة وليست واجبة. وهذا القول له وجاهته من حيث الدليل، وذلك كالآتي:
جميع الأحاديث القاضية بتحريم مسّ المصحف على الحائض أو النفساء أو الجنب معلولة عند أهل الحديث؛ إذ لا يصحّ منها شيء، لأنها إمّا مرسلة وإمّا ضعيفة، وإسنادها إمّا عن مجهول وإمّا عن ضعيف.
أنّ قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ المقصود به اللوح المحفوظ الذي في السماء، والمطهَّرون هم الملائكة لا بنو آدم، وذلك لعدة أسباب:
أوّلها: أنّ هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم، وشبّهوا هذه الآية بقوله: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: 11-16].
ثانيها: أنّه تعالى أخبر أنّ القرآن جميعه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن قد نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي ﷺ.
ثالثها: أنّه تعالى قال: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: 78]، والمكنون: المصون المحرَّر الذي لا تناله أيدي المضلين؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ.
رابعها: أنّه تعالى قال: “المطهَّرون”، وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: “المتطهّرون”، كما قال تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]. فنحن إذا تطهّرنا نصبح متطهّرين لا مطهّرين، والمطهّرون هم الملائكة.
خامسها: أنّ هذه الآية مسوقة لبيان شرف القرآن وعلوّه وحفظه.
سادسها: أنّ هذه الآية الكريمة ردّ على من قال: إنّ الشيطان جاء بهذا القرآن؛ فأخبر تعالى أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال في آية الشعراء: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: 210-211]، وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.
سابعها: أنّ الآية مكية من سورة مكية تتضمّن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار، وهذا المعنى أنسب بالمقصود من فرع عملي كحكم مسّ المصحف للمحدث.
ثامنها: أنّه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس، لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة؛ إذ من المعلوم أن كل كلام قابل لأن يكون في كتاب، بخلاف ما إذا وقع القسم على أنّه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسّه إلا الأرواح الطاهرة الزكية؛ فهذا المعنى أليق وأجل وأولى بالآية.
ويُضاف إلى ذلك: ما جاء عن عائشة رضي الله عنها حينما حجّت مع النبي ﷺ وفاجأها الحيض وهي نازلة في مكان قريب من مكة اسمه “سَرِف”، فدخل عليها النبي ﷺ فوجدها تبكي، فقال لها: «ما لك؟ أنُفِست؟» قالت: نعم يا رسول الله، قال: «هذا أمر كتبه الله – عز وجل – على بنات آدم، فاصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي» (متفق عليه). ومعلوم أنّ الحاج يقرأ القرآن ويدخل المسجد ويمكث فيه ويمسّ المصحف.
وأخيرًا أقول: ما تطمئن إليه النفس وأراه راجحًا هو جواز مسّ المصحف للحائض والنفساء، ولكن الأفضل والأكمل عدم مسّه إلا بطهارة كاملة – أي طهارة البدن والثياب والمكان – عند الاستطاعة، أو تمسّه الحائض بحائل عند العذر الجبري، أو تقرأ من خلال شاشة الهاتف تعظيمًا لشعائر الله تعالى، وخروجًا من خلاف أهل العلم:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
وأعظم من ذلك التفكر والتدبر والعمل به. نسأل الله أن يجعلنا من الذين يقيمون حروف القرآن وحدوده، ولا يجعلنا من الذين يقيمون حروفه ويضيّعون حدوده. اللهم آمين، والله تعالى أعلى وأعلم.