ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة


بقلم الشيخ : أحمد عزت حسن

الباحث فى الشريعة الإسلامية

كانت سرية محمد بن مسلمة هي أول عمل عسكري بعد غزوة الأحزاب وقريظة، وقد تحركت هذه السرية – في المحرم من العام السادس للهجرة – في مهمة عسكرية ضد بني القرطاء في أرض نجد، وفي طريق عودة السرية، تم أسر ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، والصحابة لا يعرفونه، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فلما خرج إليه الرسول ﷺ قال: «أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ» [ ابن هشام ٢ /٦٣٨] ورجع الرسول ﷺ إلى أهله، فقال لهم: «اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ».. وقد أمر النبي بِلِقْحَتِهِ – أي ناقته – أَنْ يشرب ثمامة من حليبها. ولازال الرسول ﷺ يتودد إليه ويتردد عليه، ويدعوه إلى الإسلام، ثم أمر أصحابه بفك أسر ثمامة. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (بعث النبي ـﷺـ خيلاً قِبَل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي ﷺ فقال: ما عندك يا ثمامة؟فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت .. فتُرِك حتى كان الغد فقال: “ما عندك يا ثمامة”؟فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر .. فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟فقال: عندي ما قلت لك.فقال ﷺ: أطلقوا ثمامة .. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد: والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب دين إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله ﷺ وأمره أن يعتمر .. (البخاري) ..ثم علَّمه الرسول ﷺ صفة العمرة على المنهج الإسلامي، ولقنه التلبية.

وقفة مع ربطه بالمسجد ثلاثة أيام

ترك النبي ﷺ ثُمَامَة رضي الله عنه مربوطًا في المسجد ثلاثة أيام؛ من أجل أن يستمع للأذان وهو يدوِّي، وللأذان تأثير عجيب في النفوس، [ولعل هذا هو السبب الذي شُرِعَ من أجله أن يُؤذَّن في أذن المولود ساعة ولادته]،

ومن أجل أن يرى ثُمَامَة رضي الله عنه كيف يصلي الناس، وكيف يتعامل المسلمون مع رسول الله ﷺ فيما بينهم، فيرى ثُمَامَة رضي الله عنه الإسلامَ على حقيقته من غير تكلُّف، فيندهش، فإذا دهش تأثَّر، فلعل قلبه أن يرِقَّ وينشرح للإسلام، وتلك حكمة عظيمة لرسول الله ﷺ؛ لأنه كان يريد أن يدعوه للإسلام، ولأنه رضي الله عنه كان أسيرًا وهو سيد قومه، فإن تلك الخَصلة قد تمنعه من أن يُسلِمَ؛ والله جل جلاله يقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥].

لقد كان ثُمَامَة بن أُثال رضي الله عنه سيدَ قومه كما ذُكِرَ، والسيد يتكلم بمنطق السادة والكبار، حتى وإن كان أسيرًا، فعندما أراد النبي ﷺ منه أن يتكلم شرح موقفه للنبي ﷺ بثلاث كلمات، لم يَزِدْ عليها:

الأولى: قوله: (إن تقتلني تقتل ذا دم)، وهذه الكلمة حمَّالة أوجه؛ فقد تأتي بمعنى أنه ذو شأن ومكانة، وأن دمه عند قومه غالٍ، ففي حالة قتله سيجد المسلمون من قومه رضي الله عنه من يطالب بدمه، ويسعى للانتقام من قاتله، وهي لغة قد تُضمِر بين طيَّاتها تهديدًا، وهذا هو حال السادة في الناس، فإنهم لا يخضعون بسهولة، ولا يُعطُون الدنِيَّة في المواقف.

وقد تأتي بمعنًى آخر؛ وهو أنه دم مطلوب به، ومستحق عليه؛ لأنه محارب للمسلمين، وقد يكون قد أصاب دمَ مسلمٍ هو أو قومه، وهذه هي الأعراف في الناس، من يمسك بعدوه يقتله، فلا عَتَبَ عليك في قتله، وتُشفى قلوب المؤمنين بقتله، ويدركون ثأرهم منه، وهي لغة تهدئ من رَوعِ المنتقم، وتعطيه فرصة للتفكير، وهو دهاء من ثُمَامَة رضي الله عنه.

الثانية: (وإن تنعم تنعم على شاكر) وتعني: إن عفا النبي ﷺ عنه، فإن هذا الموقف هو موقف معروف وفضل، وأن ثُمَامَة رضي الله عنه رجل كريم وأصيل، فسيحسب ذلك حسنة لرسول الله ﷺ عليه، ولن ينساه له، ولن ينكره، وسيأتي اليوم الذي يرُدُّ الجميل إلى رسول الله ﷺ.

الثالثة: (وإن كنت تريد المال فسَل منه ما شئت)، وهو عَرضٌ للفداء، وهذا عرف قديم وشائع بين الناس، فالأسير يفدي نفسه بالمال، وهذا العرض عرض من سيد قومٍ، وفداء سيد القوم ليس كفداء عامة الناس، فيمكن أن تكون فديته أموالًا طائلة.

دَارَ هذا الحوار في اليوم الأول، وثُمَامَةُ رضي الله عنه لا يدري على وجه اليقين ماذا سيفعل رسول الله ﷺ به، أهو قاتله، أم تاركه، أم شيء آخر؟ فكان رضي الله عنه أن قدَّم له الخيارات الثلاثة أو العروض الثلاث، وهذا من ذكائه ودهائه رضي الله عنه، فهو لم يكن متهورًا، فيهدِّد ويتكلم كلامًا يغيظ خصمه، ولم يكن خائفًا ولا مترددًا، ولم يذل نفسه بالتوسل، فإن البعض في مثل هذا الموقف ربما قبَّلوا الأيادي والأقدام من أجل النجاة، ولكن ثُمَامَة رضي الله عنه لم يفعل ذلك، واتخذ بين ذلك سبيلًا، ولعل ذلك أعجب رسول الله ﷺ، وكان رسول الله ﷺ قد ترك ثُمَامَة رضي الله عنه في اليوم الأول في المسجد، فكان رضي الله عنه ينظر إلى النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، كيف يتعامل بعضهم مع بعض، وكيف يقيمون صلاتهم، وكان هذا الأمر مقصودًا من قِبَلِ رسول الله ﷺ، كما أنه ﷺ قبل ذلك كان قد أمر أصحابه أن يُحسنوا إليه وأن يُطعموه.

وفي اليوم الثاني عاد النبي ﷺ لثُمَامَة رضي الله عنه، فسأله نفس سؤال اليوم الأول، هنا بان ذكاء ودهاء ثُمَامَة رضي الله عنه وفطنته، فإنه رضي الله عنه لم يعُد للخيارات الثلاثة نفسها، بعد أن اطمأنت نفسه لرسول الله ﷺ، وقد أيقن بأن رسول الله ﷺ ليس بقاتله، ولم يكن هدفه ﷺ في رسالته سفكَ الدماء بلا سبب ولا فائدة، كما أن المال وإن كثُر لا يعنيه ﷺ مقابل كسب قلوب الرجال، فهو ﷺ يريد من الرجل قلبه.

قدم ثُمَامَة رضي الله عنه في هذه المرة عرضًا واحدًا بقوله رضي الله عنه: (إن تنعم تنعم على شاكر)، فهي رسالة تحمل بين طيَّاتها أن ثُمَامَة رضي الله عنه يرغب – بل يطمع – بأن يعفو عنه النبي ﷺ، وأنه سيشكر لرسول الله ﷺ إن أنعم عليه وأطلقه، والنبي ﷺ فَهِمَ هذا المعنى، ولكنه رأى أن يتركه يومًا آخر؛ ليرى ثُمَامَة رضي الله عنه مزيدًا من الخير الذي في الإسلام.

ثم عاد النبي ﷺ لثُمَامَة رضي الله عنه في اليوم الثالث، وسأله نفس السؤال، وكان موقف ثُمَامَة ثابتًا لم يتغير، فأمر رسول الله ﷺ أصحابه أن يطلقوه، بعدما تيقن ﷺ أن هذا السيد سيقوده عقله للحق، وأنه سيكون دعمًا وسندًا وكسبًا للإسلام.

وبالفعل خرج ثُمَامَة رضي الله عنه، وسأل الناس عن: كيف يدخل في الإسلام؟ فأرشدوه بأن يغتسل ويأتي لينطق شهادة الإسلام بين يدي النبي ﷺ، وقد فعل ذلك، وبعد إسلامه رضي الله عنه مباشرة قال للنبي ﷺ كلمات عظيمة وأولها قوله: (والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ)، لقد انقلب كره ثُمَامَة رضي الله عنه للنبي ﷺ ولدينه إلى حبٍّ، بل هو الحب الأول والأكبر، وهكذا هي الهداية تأتي من الله جل جلاله مرة واحدة، وقد كان ما في وجه رسول الله ﷺ من نورٍ وهَيبةٍ وصدق أسبابًا لإيمان ثُمَامَة رضي الله عنه، وليس ثُمَامَة هو الوحيد الذي تأثر بوجه رسول الله وأحبَّه، بل هناك آخرون ومنهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه؛ حيث يقول: “لـما قدم النبي ﷺ المدينةَ، انجفل الناس قبله، وقيل: قد قدم رسول الله ﷺ، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله ثلاثًا، فجئت في الناس، لأنظر، فلما تبيَّنتُ وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب”[سنن ابن ماجه (١٣٣٤)].

أول معتمر في الإسلام

استأذن ثمامة الرسول ﷺ أن يؤدي العمرة فكان أول مسلمٍ على ظهر الأرض يدخل مكة ملبِّيًا، وكانت لا تزال بيد الكفار، ولا يزال فيها الأصنام. حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يجلجل بصوته العالي، قائلاً: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمـد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لا شريك لك” سمعت قريشٌ صوتَ التلبية، فهبَّت الجمع مستلين سيوفهم مِن أغمادها، واتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها، ولما أقبل القوم على ثمامة، رفع صوته بالتلبية رفع العيار، فهمَّ فتىً من فتيان قريش أن يرديه بسهمٍ، فأخذوا على يديه، وقالوا: ويحك أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال، ملك اليمامة، فقتْلُه يشعل علينا نارَ حربٍ كبيرةٍ، أخذوا على يديه، ومنعوه أن يناله بسهم، وقال الناصح: “والله إن أصبتموه بسوءٍ لقطع قومه عنا الميرة، وأماتونا جوعًا، ثم أقبل القوم على ثمامة، بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها، وقالوا: ما بك يا ثمامة، أصَبَوْتَ؟ يعني أسلمت، وتركتَ دينك ودين آبائك، قال: ما صبوت، ولكني اتبعتُ خير دينٍ، اتبعت دين محمد.

الحصار الاقتصادي على مكة

عندما انتهى ثمامه بن اثال من عمرته، قال لسادات قريش (أقسم برب هذا البيت إنه لايصلكم بعد عودتي إلى اليمامة حبةٌ من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا دين محمد عن آخركم) وعاد إلى بلاده فأمر قومه بأن يحبسوا الميرة عن قريش، فصدعوا بأمره واستجابوا له، مما جعل الأسعار ترتفع في مكة، ويفشو الجوع ويشتد الكرب حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم الهلاك. عند ذلك كتبوا إلى الرسول ﷺ يقولون: “إن عهدنا بك تصل الرحم وتحض على ذلك .. وإن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا. فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث بما نحتاج إليه فافعل.”

فاستجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم ، وكتب إلى سيد بني حنيفة ثمامة : ( أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم ) .. فامتثل ثمامة أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة ، فارتفع عن أهلها الخوف من المجاعة .

وأكمل ثُمَامَة رضي الله عنه مواقفه النبيلة بأنه ثبت يوم ارتدت بنو حنيفة وغيرها من العرب عن الإسلام، فلم تجرُفه الفتنة، وثبت على إيمانه، وأعدَّ رضي الله عنه جيشًا سار معه ليكون مع جيش العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في حربهم لأهل البحرين المرتدين في حينها.

وفاتهتوفي بعد حروب الردة في البحرين. حيث قتل وهو في طريق العودة إلى اليمامة سنة ١٢هـ، فقد كان لابسًا خميصة الحطم بن ضبيعة وظن أصحاب الحطم أن ثمامة هو من قتله، ولم يكن ثمامة هو من قتل الحطم بل اشتراها ممن غنمها في الحرب، فقتلوه انتقامًا للحطم.