سوء استخدام (السوشيال ميديا) “نشر المشكلات الشخصية نموذجًا”


بقلم الشيخ : صالح علي صالح الفقي
الموجه العام بوعظ الأزهر الشريف – ومشرف لجان فتوى الأزهر بمنطقة وعظ كفر الشيخ سابقا

لم تَعُد وسائل التواصل مجرد وسائط للحديث وتبادل للأخبار، بل غدت جزءًا من نسيج حياتنا، يختلط فيها الخاص بالعام، والجاد بالهزل، والصدق بالزيف. ولعل أخطر ما أفرزته هذه المنصات أن كثيرًا من الناس اتخذوها منبرًا لبثّ مشكلاتهم الشخصية، تصريحًا أو إيحاءً، وكأنّ الأسرار فقدت قدسيتها، وصارت مادة للتداول والتعليق.

إنّ ما يُنشر في لحظة انفعال لا يبقى لحظيًّا؛ بل يظل شاهدًا على صاحبه، يعيد إنتاج صورته أمام الناس مرارًا. كلمة عتاب على الحائط الافتراضي قد تتحول إلى شرخ عميق في العلاقة، وبوح عاطفي قد يجرّ وراءه سلسلة من الفضول والأسئلة والتأويلات، وخلاف أسري قد يُختزل في بضع جمل معلَّقة في فضاء مفتوح، لا يعرف حدودًا ولا سياجًا.

في ظاهر الأمر، يظن صاحبه أنّه يخفف همّه أو يطلب مؤازرة، لكن في جوهره هو يفتح الباب للشّماتة، ويمكّن الغريب من التسلّل إلى أخصّ خصوصياته، ويجعل الألم الخاص فرجة عامة. فالمشكلات لا تُحلّ على مرأى الجماهير، بل تُدار في دوائر العقلاء والمقرّبين، أو تُرفع إلى الله الذي قال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، وإن كان الأولى بنا التفويض إليه قبل كل شيء.

إنّ خطورة هذه الظاهرة لا تكمن في لحظة النشر وحدها، بل في أثرها الممتد: صورة مشوّهة تلاحق صاحبها، كلمة لا تُمحى من الذاكرة الرقمية، وموقف قد يُستدعى بعد سنوات في غير موضعه. ومهما حاول المرء أن يُبرّر أو يُصحّح، فإن الأثر قد وُضع، والبصمة قد سُجّلت.

ولذلك جاء التحذير النبوي بليغًا: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»، وفي حديث آخر: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة». إنّها دعوة لحفظ الستر، والالتفات إلى أنّ كتمان البلاء قد يكون عينَ العافية، وأن المجاهرة بالهموم والفضائح ليست شجاعة، بل انكسار للستر الذي منّ الله به على عباده.

لقد خُلقت هذه الوسائط لتكون جسور تواصل نافعة، تُنشر فيها المعرفة، وتُبنى بها العلاقات على أسس قويمة، لا لتكون مكبًّا يُلقى فيه الغضب واليأس والأسرار. ولعلّ أجمل ما يليق بالإنسان أن يجعل من حضوره في هذا العالم الرقمي امتدادًا لما يحب أن يراه مكتوبًا في صحيفة عمله: كلمة نافعة، أو فكرة هادفة، أو بسمة تُحيي في القلوب الأمل.