تأثيرُ التَّصوُّفِ في انتشارِ الأخلاقِ النبويَّةِ

بقلم الدكتور : محمد لطفي الحسني
شيخ الطريقة القادرية البريفكانية في مصر

تأثيرُ التَّصوُّفِ في انتشارِ الأخلاقِ النبويَّةِ

في خضمِّ زحامِ التيارات الفكرية والدينية التي عرفها التاريخ الإسلامي، يظلُّ التصوُّف أحدَ أبرزِ المسالك التي حافظت على روحِ الإسلامِ في صفائِها، وعلى جوهرِ الرسالةِ المحمَّدية في حقيقتها السلوكية والأخلاقية. ومن ثمارِ هذا المسلك الرباني: نشرُ الأخلاق النبويَّة في الأمَّة، لا قولًا فقط، بل حالًا وسلوكًا وتأثيرًا.

التصوُّفُ: سُلوكٌ إلى اللهِ بالأخلاقِ

ليس التصوُّف مجرد منظومة من الأذكار والطقوس، بل هو مدرسةٌ روحيةٌ تربويةٌ هدفها الأسمى هو التحقُّق بمقام الإحسان، أي أن “تعبد الله كأنك تراه”. وقد أدرك الصوفية أن الوصول إلى هذا المقام لا يكون إلا عبر تهذيب النفس وتزكية القلب، وهما لا يتمَّان إلا عبر التخلُّق بالأخلاق التي جاء بها رسولُ الله ﷺ.

ولهذا قالوا: “التصوُّف كلُّه أدب، فمن زاد عليك في الأدب، زاد عليك في التصوُّف.”

الصحبةُ والتربية: مفتاحُ ترسيخ الأخلاق

اتخذ الصوفية التربية طريقًا لترسيخ الأخلاق النبويَّة، فالمريد لا يُؤخذ بالعلم النظري فقط، بل يُربّى عمليًّا في حضرة شيخٍ ربَّاني، تفيض منه الأخلاق كما تفيض الأنوار. فترى الشيخ متخلّقًا بالحياء، متأدِّبًا في كلامه، متواضعًا مع تلاميذه، رحيمًا بالفقراء، كريم النفس، زاهدًا في الدنيا، كثير الذكر، عفيف اللسان، وهي صفاتٌ مأخوذةٌ من رسول الله ﷺ.

وهذا ما يعبِّر عنه الإمام الجنيد البغدادي بقوله: “طريقُنا هذا مبنيٌّ على الكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في طريقنا.”

منابرُ الأخلاق: الزوايا والتكايا

لقد كانت زوايا الصوفية، ولا تزال، مناراتٍ أخلاقيةً في القرى والمدن، حيث يجد فيها الناسُ قدوةً حيَّةً على خُطى الحبيب المصطفى ﷺ، لا تدعوهم إلى الله بالكلام فقط، بل بالمعاملة والرحمة والسماحة. ولم تكن هذه الزوايا منعزلة عن المجتمع، بل كانت حاضرة في كل تفاصيله: في تعليم الأطفال، وإيواء المحتاجين، وإصلاح ذات البين، ومواساة الضعفاء، حتى غدت الأخلاق النبوية فيها معيشةً يوميةً.

المحبَّةُ المحمَّديَّة: سرُّ الجاذبيَّة الأخلاقية

من جوهر التصوف: *محبَّةُ رسول الله ﷺ، لا محبةً عاطفية فقط، بل محبةً تورث الاتباعَ الكامل. وقد قالوا: *”من أحبَّ شيئًا أكثر من ذكرِه، ومن أحبَّ رسول الله ﷺ تخلَّق بأخلاقه.”
فتجد الصوفي يتأسَّى بالحبيب في لطفه وتواضعه، ويتأدَّب في حضرته بالصلاة عليه، ويجعل سيرتَه نموذجًا أعلى.

ولذلك، كان تأثير الصوفية في الأمم غير المسلمة عظيمًا، لأنهم حملوا إليهم الإسلام لا بالسيف ولا بالجدل، بل بالأخلاق النبوية التي تشرَّبُوها حبًّا وسلوكًا.

الصوفيُّ الحقيقي: أخلاقيٌّ نَبَوِيٌّ

لم يكن الصوفيون دعاةَ أخلاقٍ نظريين، بل كانوا رجالَ مواقف، يُترجِمون مكارم الأخلاق في أفعالهم اليومية. فكانوا أصدق الناس في البيع والشراء، وأرحمهم بالخَلق، وأعفَّهم عن المال، وأشدَّهم وفاءً بالعهد، وأغناهم عن الناس. وهذا كله صدى لقول رسول الله ﷺ:“إنما بُعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق.”

لقد ساهم التصوُّفُ، على مدى القرون، في نشر روحِ الأخلاق النبويَّة في المجتمعات الإسلاميَّة، لا عبر الوعظِ فقط، بل عبر التمثُّلِ السلوكيِّ، والقدوةِ الصامتةِ، والحالِ الذي يُغني عن المقال**. فالصوفيُّ لا يحدِّثُك كثيرًا، لكنك ترى في وجهِه نورًا، وفي سلوكِه صدقًا، وفي قلبِه رحمةً، وكلُّها أخلاقٌ من مشكاةِ النبوَّة.

وهكذا، بقي التصوُّفُ مدرسةً أخلاقيَّةً عريقة، حافظت على سِرِّ النبوَّة سلوكًا وتربية، وساهمت في حفظِ الإسلام بروحه قبل حروفه، وبأخلاقه قبل أحكامه