مصر بين المولد والأفتتاح

بقلم الأستاذ: مازن ابو الفضل مدرب تنمية بشرية ومهارات

مرت مصرنا في الأيام الأخيرة بحدثين جليلين كان لهما صدى كبير في التفاعل على مواقع التواصل وشتى الدوائر الإجتماعية الحدث الأول مولد السيد البدوي رضي الله عنه، حيث اجتمعت عليه حشود مليونية في مدينة طنطا للإحتفال بذكرى ولادة السيد الأحمدي وأثارت هذه الحشود حفيظة التيار المخالف للأزهر الشريف “السلفيين-الإخوان-الوهابية” وشيعة السعودية من الاعلاميين والشيوخ فهاجموا هذه الحشود واستهجنوها وخاضوا في من حضر واحتفى بل وخاضوا في السيد البدوي نفسه وقالوا فيه ما قال السفهاء من القوم في كتبهم المليئة بالعلم المشبوه.

الحدث الثاني هو إفتتاح المتحف المصري الجديد، حيث تهيأت له أجهزة الدولة الإعلامية والأمنية باعتباره إنجاز يرفع درجة مصر في خريطة السياحة العالمية وتعطي قيمة جاذبه للسياحه الداخلية والخارجية وإحتفى به أيضاً الناس على وسائل التواصل الاجتماعي حيث انتشر “تريند” أن تجعل صورتك الشخصية بهيئة “فرعونية”.

وأثار هذا الإهتمام والتوجه أيضاً نفس الجهات التي تكلمنا عنها سابقاً وبنفس التهم، التكفير والتحقير.. التكفير والتفسيق لمن اهتم بالاحتفال واقبل عليه وفرح به، والتحقير للحضارة المصرية القديمة أيضاً واعتبارها حضارة وثنية غير مؤمنه بالله ولا يجب الاحتفاء بها والتشبه بهيئتها في المظهر والفخر بالانتساب اليها.

فالآن لدينا حدثين مصريين خارجين من “هوية” مصرية ممتده أحدها شخصية دينية والثاني احتفال بحضارة قديمة. فلماذا لهما نفس العدو؟

هناك عدة أسباب وهي ترجع لتكوين وجوهر التيارات السلفية والوهابية والإخوان.

الإخوان المسلمين مثلاً وببساطه هم يبغضون كل ما ليس صادر منهم، أي هم يهاجمون كل سلطة ليسوا جزء منها، فكل السياسات والإجراءات باطله طالما ليست صادرة من مكتب الإرشاد. والوهابية تبغض كل ماليس سعودي المنشأ، هذا بسيط أيضاً

فما هو سبب السلفيين؟

الأمر يرجع للتشوه المعرفي المكون لمذهبهم، هذا التشوه على حسب علم الأبستمولوجي “نظرية المعرفة” هو أنهم يعتبرون ان المعرفة محصورة في النص الديني فقط أي ان كل ما نريد أن نعرفه عن الواقع يمكننا ان نستخرجه من النص الديني وكل ما عداه باطل لا داعي لمعرفته والخوض فيه.

وللعلم هذا التشوه لا يخص السلفيين وحدهم بل هو نمط نجده في كل الديانات -مثل التصوف- فمثلاً اليهود لديهم طائفة (الحسيديم) والمسيحين لديهم طائفة (الآميش) وهم جماعات منعزلة تعتبر المدنية خطيئة والحضارة ذنب يجب الحذر منه.

وإن أردت ان ترى مثل حي في التاريخ عن ما نتكلم عنه إقرأ عن معاناة المسيح عليه السلام مع الفريسيين، وإقرأ عن العصور الوسطى في أوروبا أو كما يسميها الباحثون في التاريخ “عصور الظلام”

وفي حالتنا النص المقدس لدى السلفيين هو (القرآن والأحاديث) وطبعاً هاذين النصين مقدسين لدينا جميعاً لكنه الإختلاف هنا بينهم وبين باقي الفرق الإسلامية في نقطتين:

الأولى : أن السلفيين يتعاملون بشكل حرفي وبتفسيرات معينه لا يحيدون عنها تقتصر على القرون الثلاثة الأولى في التاريخ الإسلامي.

الثانية : أن أدوات المعرفة لديهم غير مكتملة مما يجعل نظرتها للواقع ناقصه، فهم يعتبرون العقل مضلة والتجربة العلمية تسوق الإنسان للإلحاد والقلب يُغرق الإنسان في الأوهام، فحسبنا الكتاب والسنة عاصمين عن الضلال.

وبعد ان بينا التشوه المعرفي لدى التيار السلفي يمكن القول أنها طائفة لا تفقه معاني كالنمو أو التطور، هم محبوسين ومنغلقين في حقبة زمنية واحده تبدأ من البعثة النبوية الشريفة وتنتهي عن الدولة الأموية وقد يمتد بعض المثقفين منهم للخلافة العثمانية “الفاطميون يمتنعون”

وما قبل وما بعد هذه الفترة غير معترف لا بثقافته ولا علومه، فالإسلام يجب ما قبله وخير القرون قرني.وما قبل وما بعد كفر وضلال وابتداع.

لذلك لا غريب انهم لا يعرفون ماذا تعني الحضارة وماذا تمثل للجنس البشري، فمصطلح “التاريخ لديهم هو قصص تحذيرية يرويها لنا الله عن “الأمم السابقة” التي خرجت عن مسار الهداية فخسف الله بها الأرض ولم يسمع عنها احد بعد ذلك.

كما ان التاريخ هو فقط تاريخ الرسل والملوك فقط وأي تاريخ غيره لا نفع من دراسته او الإطلاع عليه.

لا يقتبسون سوى عن النبي وصحابته الكرام، الأثرياء منهم عامة والعسكريين منهم خاصة، لايتكلمون عن الأنبياء او أهل البيت، فلا الأنبياء معروف عنهم سوى ما في القرآن ونحن لدينا مبي فلا نتكلم عن غيره وأهل البيت لا نأتي على ذكرهم مخالفة للطوائف الضالة.

حتى القرآن عندهم يخص فقط سبب ما نزل فيه ولا يستدل به عن شيء آخر، حصروه فقط في نفس الفترة الزمنية.

لا يؤمنون بأهمية أي أمة او تجمع بشري في العالم سوى أمة الإسلام المختارة لتسود -هل يبدو لك هذا الإدعاء صهيونياً نوعاً ؟- أو الفرقة الناجية -السلفيين بخط رفيع لا يقرأه سوى المؤمنون- هم الذين سيهبهم الله الأرض ومن عليها ليطيل الرجال لحاهم ويرتدي النساء النقاب ونعيد العالم كله للفترة الزمنية التي ذكرناها من قبل.

ليس عجيب ان بعضهم حرم دورات تطوير الذات وبعضهم حرم زيارة المتاحف والإحتفاء بها.

لا يدركون أن الحضارة تحكي عن نمو وتطور الإنسان وتراكم خبراته، لا يدركون ان الحضارة واستمرارها هي لطف الله ومدد من لديه، الله لم يغفل عن خلقه في شتى صقاع الأرض بل أرسل اليهم مدده المادي والمعنوي اذ لا تخلو أرض وتجمع من هادي ودال على الله سبحانه له ألف إسم وإسم في شتى بقاع الأرض وله موحديه.

ولكن من أين سيأتي لتلك الطائفة سعة أفق وقد أعطاهم الله باباً فأبوا إلا وأن ينظروا من ثقب المفتاح فقط..

وحضارات العالم كله في كفة وحضارة مصر القديمة في كفة أخرى..إذ إمتدت وضربت في عمق التاريخ لأكثر من 15000 عام على حسب آخر الإكتشافات.تلك الدولة العميقة التي كان يهوي اليها كل من لا ملجأ له، درة التمدن والتقنية في شمال أفريقيا، فقط بنيانها وحجارتها تُذهب العقول فما بالك في رؤيتهم للكون ونشأته ونمط معيشتهم وتقنية زراعتهم ولغز أهرامها والعديد من الأسرار التي لم يُكشف عنها اللثام بعد.

بلغ من علو شأن مصر وإمكانياتها أن النبي يوسف أمره الله عليها لينقذ الناس من بلاء القحطلابلغ من تمدنها أن نفس النبي قال ( وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ ) يعني أن وجود بني إسرائيل في مصر أفضل لهم من حياة الصحاري،حيث تدل كلمة “حضارة” في اللغة العربية على إقامة القرى والمنازل، وهو نقيض البداوة.

مصر التي نؤمن يقيناً أن علومها ومعارفها إلهي المنشأ شأن كل الحضارات بل وأكثر إذ أن نبي الله إدريس أسس علومها وارتقى بأهلها وسار النبي يوسف على دربه وهي منبر الإمام المهدي عليه السلام في آخر الزمان.

هذا عن مصر وحضارتها، فماذا عن السيد البدوي؟

لنفس الأسباب السابقه فالسيد البدوي ليس منتج سعودي ولم يظهر في مصر وقت الثمانينات فلا يمكن القول بسلفيته، وهو محسوب على الصوفيه وهؤلاء قوم لا نفهمهم وليسوا مثلنا فشأنهم عندنا شأن الفرق الضالة.

لهذا لا تجد السلفيين يعترفون بهوية مصر الصوفية وعلماؤها مثل ابو الحسن الشاذلي او المرسي أبي العباس او السيد البدوي أو أحمد الرفاعي، ولا عن علومهم او تأملاتهم أو مسالكهم التربوية ولا كراماتهم او أورادهم التي تقربوا بها الى الله وتقبلهم بها ورفعهم درجات.

اهتموا فقط بالتراث الشعبي والحكايات التي رواها الناس عنهم واتبعوا المتشابه من القول ابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم.

وفي النهاية كانت الصفعة الكبيره وإذن بسقوط سلطانهم عند المصريين الذي عشش في عقولهم منذ ثمانينات القرن الماضي عندما وجدوا مليونيات حول مقام السيد البدوي فحسدوا الناس على ما أتاهم الله من فضله ولا حول ولا قوة الا بالله.

بقى امر أخير نشير اليه وهو الإنتساب الزائف للحضارة المصرية القديمة التي ادعاها المصريين مؤخراً والذي كان موجه من الذكاء الصناعي والذي كان مصداق لوصف الإمام علي لأصناف الناس حيث قال عن بعضهم همج رعاع أتباع كل ناعق، فما نعق أحدهم بتريند خاضو وفيه وتذكروا هويتهم ال”فرعونية” بعضهم كان كالسلفيين تماماً كاره للوجود الإسلامي في مصر ويحقر من حضارته بل ليس من المستبعد أنه كان يهاجم مولد السيد البدوي أصلاً.

غافلاً ان الحضارة طبقات وهوية ممتزجه وأن الإنسان المصري الموجود حالياً ليس فرعوني اوقبطي او روماني او فارسي او يوناني او عربي، بل هو كل هذا ..هو مصري وهذا ما يميز الحضارة المصرية انها جامعة مُجمعه وهي نقطة قوى ستكون سبباً لقيادة مصر للمنطقة في يوم من الأيام.

نقول للمصريين المنتسبين للفراعنه، وهو اسم خاطيء عموماً فالفرعون اسم ورد في الكتابات المقدسه بل في الفكر الاسلامي يدل على الكبر والطاغوت والحاكم والذي يسوق الناس للضلال انما الاسم الصحيح هو الحضارة المصرية القديمة وليس الحضارة الفرعونية.

نقول للمصريين أن “الحضارة من الحضور” هو قول يشير إلى أن الحضارة تنشأ وتتطور من خلال وجود الإنسان وتفاعله، يشير القول إلى أن التطور والازدهار الذي يميز الحضارة لا يتحقق إلا من خلال وجود الناس وتفاعلهم في بيئات مستقرة.

أي انك اذا تنتمي لحضارة يجب عليك ان يكون تصرفك “حضارياً”

أين أثر المصريين القدماء في حياتك؟

أين انت من قوانين ماعت؟

أين أنت من النظافة واحترام النيل وحفظ الحياة؟

إن مجتمعنا الآن يبدو أنه لا ينتمي لأي حضارة، وللأسف في كثير من الأحيان تشعر انك تسير وتتعامل مع مسوخ على هيئة بشر.

كيف يمكن أن ندعي أننا ننتسب لحضارة عميقة ونحن لا نحترم آثارها بل نسرقها إذا تيسر الأمر؟

كيف يمكن لمجتمع ينتشر فيه القتل أن يدعي انه حضاري؟

كيف يمكن لمجتمع يساعد الفساد والتردي الأخلاقي على الإنتشار أن يدعي أنه ينتسب لتلك الحضارة العظيمه؟

لا نرى هذا الا نفاقاً وهوس لا محل له وكذب على النفس، أنت لست مصري بل فرعوني حقاً وصدقاً.

كل ما يعانيه مجتمعنا من مشاكل لا يدل على أن هناك ناس ينحدرون من أي حضارة تعيش هنا.

أو كما يحب البعض ان يخاطب السلفيين او المتدينين “لا تحدثني عن الحضارة بل دعني اراها في أفعالك”