فيلسوف الروح… عبد الحليم محمود بين الفكر والإيمان


بقلم د إبتسام عمر عبد الرازق

ولد عبد الحليم محمود في 12 مايو 1910م، في قرية أبو أحمد (حالياً “السلام”) مركز بلبيس، بمحافظة الشرقية في مصر, نشأ في أسرة كريمة معروفة بالتديّن والعلم؛ حفظ القرآن في سنٍّ مبكّرة، مما بلور فيه الأساس الذي يقوم عليه ارتباطه العميق بالكتاب الكريم

دخل الأزهر الشريف في سنة 1923م، ومرّ في حلقاته، ثم التحق بمعهد المعلمين المسائي والمعاهد الأزهرية، تجمع دراسته بين التعليم النظامي والديني، مما مكّنه من فهم عميق للتحدّي المعرفي الذي واجهه المسلمون آنذاك.

لم يكتفِ عبد الحليم محمود بالدراسة التقليدية، بل توجّه إلى الخارج، إلى جامعة السوربون بباريس، ليقرأ التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، وينال شهادة الدكتوراه في التصوّف الإسلامي عن أطروحته في “الحارث بن أسد المحاسبي” عام 1940م بدرجة امتياز وشرف أول، رغم ظروف الحرب العالمية وأزمة البعثات، مما يدل على عزيمة صلبة وإيمان قوي بالعلم.

خلال هذه المرحلة، تأثر بعلاقات مع علماء الغرب والمستشرقين، وأدرك أن المسلمين بحاجة إلى تجديد في الفكر يجعلهم قادرين على الحوار مع الآخر دون تفريط في الثوابت.

عبد الحليم محمود عُرف بأنه من رواد مدرسة الفكر الإسلامي التي تسعى للجمع بين الأصالة والمعاصرة: المحافظة على التراث الإسلامي من جهة، والانفتاح على متطلبات العصر من وجهة أخرى. لم يزهد في العقائد التقليدية، ولم يتشبّث بها بطريقة تغلق الأبواب، بل كان ينقد ما يمكن نقده ضمن الضوابط الشرعية، ويُعيد النظر فيما يتعارض مع العقل والنص، دون تجاوز

لم يكن عبد الحليم محمود مجرد مفكّر فحسب، بل كان متصوفاً عارفاً؛ يرى أن الحياة الإسلامية لا تكتمل إلا إذا اشتملت على الداخل: القلب، والذكر، والورع، والزهد. المنهج الصوفي بين يديه ليس مطلقاً بلا تنظيم، بل هو ضابطه الذوق، وحدس المعرفة، والتجربة الروحية الصحيحة، لا بد من صحبةٍ وورع، والتدرّج في المراتب.

عبد الحليم محمود انتقد الفلسفة التجريدية التي تنفصل عن الواقع، أو التي تُصبح مُرْهِقة للإنسان وتغلق عليه أبواب التأمل الشرعي. لكنه لم يكن مُعَادٍ للفلسفة برمّتها؛ بل رأى أن يكون هناك “تفكير فلسفي إسلامي” يُعيّن عليه المسلم أن يُعيد الحيوية إلى الفلسفة الإسلامية، أن يجعلها خادمة للتجربة الإسلامية، لا عبئاً مُتحيّراً

وقد تولى عبد الحليم محمود عمادة كلية أصول الدين، ثم أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية، ثم وكيلاً للأزهر، ثم وزارة الأوقاف، وأخيرًا مشيخة الأزهر من 1973 حتى وفاته عام 1978م, ومن إنجازاته: استعادة كرامة الأزهر ومكانتها، توسيع الفروع الأزهرية، الاهتمام بوسائل الدعوة الحديثة مثل إذاعة القرآن الكريم، إحياء الشعور الإسلامي في الأمة, كذلك، لم يكن خافياً مواقفه التي تتطلب الجرأة: خلال فترة حكم الرئيس السادات، أحد المصادر تشير إلى أن الشيخ عبد الحليم محمود “تحدى الدولة وأجبرها على التراجع” في مسائل تتعلق باستقلال الأزهر وحريّة المؤسسة الدينية عن التدخل السياسي

والامام الجليل ترك أكثر من ستين مؤلفاً، في مجالات متنوعة: التصوف، العقيدة، الفلسفة، التربية، الدعوة، التوحيد، الإسلام والعقل، التفكير الفلسفي في الإسلام، وغيرها. بعض كتبه تُرجمت، وبعضها بالعربية وبعضها بالفرنسية, من أشهر كتبه: التفكير الفلسفي في الإسلام، أسرار العبادات في الإسلام، الإسلام والعقل، التوحيد الخالص، أوروبا والإسلام

إلى جانب العلم والموقف، كان عبد الحليم محمود مثالاً في الزهد والورع: تربية النفس، الانقطاع إلى الله، قدرة على الاستغناء عن المظاهر، والحرص على الصحة الروحية، وهذه كانت محوراً ثابتاً في سلوكه – أنها ليست وظيفة علمية أو اجتماعية فحسب، بل دعوة شخصية للارتقاء الداخلي. كثير من الذين عرفوه يذكرون أن تواضعه، وبساطته، وحرصه على أداء الأمانة مع ما حمل من مسئولية كانت علامة مميزة فيه.

أثره ممتد في الأجيال التي تلاه – طلبة في الأزهر، وأساتذة، ومشتغلون بالدعوة الإسلامية – كثيرون ممن تأثروا بمنهجه الجمعي بين العقل، والروح، والتراث، والتجديد, ترك مؤلفات تُدرس، وخطاباً يُقتدى به في التوازن: لا تطرف ولا تهاون، بل صحوة واعية, في المجتمع: استعاد الأزهر دوره كمؤسسة مرجعية، ليس فقط في الشريعة والدين، بل في مواجهة القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وكان له صوت مسموعاً بين الناس والرؤساء.

وهناك عدة دروس مؤثرة من حياته منها :

الإيمان بالعزم والإرادة: رغم التحديات – كالحرب العالمية، والضغوط السياسية – استطاع أن ينجز أطروحته، أن يقف موقف الحق، أن يصون مؤسسات الأمة.

جواز الجمع بين الأصالة والمعاصرة: لم يرفض ما هو حديث بمجرده، بل انتقى، ووازن، وضبط الأمور.

أهمية البُعد الروحي: العلم بدون تهذيبٍ للنفس يكون ناقصاً، فالإمام عبد الحليم محمود كان يعرف ذلك تماماً، وكان يمارس حياته بحيث يكون المؤمن الكامل، إنساناً يقود وليس تابعاً.

الاستقلالية والجرأة: أن يكون المرء أميناً في قوله وفكره وفعله، لا مُخضعاً لأي تأثيرٍ إلا للحق.

والإمام عبد الحليم محمود ليس شخصية من الماضي تُذكر بالمجاملة؛ بل هو درس حيّ لمن يبحث عن التوازن بين الدين والعلم، بين النظر والعمل، بين الذات والرسالة. في عالمٍ كثرت فيه الأصوات الملفقة، وزادت التحديات الفكرية والسياسية، يبقى تراثه منارة لمن يتحرّى الحق ويحب العطاء الصادق.