أيهما أخطر على التوحيد، الإلحاد أم التجسيم؟


بقلم الكاتب والمفكر: محمد نجيب النبهان 

إنّ قضية الضلال ليست قضيةً فرعية ولا فرعًا من فروع الفكر يُتناول للتسلية الذهنية أو التمرين الجدلي، بل هي صميم الدين، وجوهر العقيدة، وأساس النظر الفلسفي، ومحور علم الكلام الذي اجتهد فيه العلماء منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا. وإنّ أشدّ ما يتعلّق به عقل الإنسان وقلبه هو تصوّره عن الله تعالى، فإن كان التصوّر مستقيمًا صحّ الإيمان واستقام العمل، وإن كان منحرفًا انحرف الفكر والسلوك والعبادة، وانقلبت الموازين حتى يصبح الحق باطلًا والباطل حقًا. ومن هنا كان النظر في مراتب الضلال واجبًا لا يجوز إهماله، والتمييز بين أنواعه ضرورةً حتى لا يُساوى بين من ضلّ عن جهل وبين من ضلّ عن علم، ولا بين من تاه عن الطريق وبين من قلب معالمه عمدًا.

لقد اصطلح العلماء على أن الضلال مراتب، كما أن الهدى مراتب، فليس كل باحث عن اليقين سواء، وليس كل من أخطأ في باب الاعتقاد متساويًا مع غيره، فالفرق عظيم بين من لم يعرف النور بعد، وبين من رآه ثم حرّفه أو أطفأه. ومن هنا نفصل بين فريقين يمثلان طرفي نقيض: فريق الملحدين والربوبيين واللاأدريين الذين لم يهتدوا بعد إلى اليقين الإلهي، وفريق المجسّمة والمشبّهة الذين أقرّوا بالله لكن صوّروه على غير ما يليق بجلاله. وهذان الفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الضلال في أحدهما جهل وضياع، وفي الآخر افتراء وتحريف، والفرق بينهما كالفرق بين من يتيه في الصحراء لا يعرف الطريق، وبين من دلّ الناس على الطريق ثم قلب معالمه ليضلّهم عمدًا.

فأما الإلحاد بصوره المختلفة، من إنكار محض إلى شك متردد إلى ربوبية تعترف بالخالق الأول وتنكر الوحي، فهو في جوهره ضلال جهل. إنّ الملحد لم يفقه بعد أن الوجود الممكن لا يستغني عن وجود واجبٍ يُفيض عليه الوجود، ولم يُدرك أن كل حادث يحتاج إلى محدث، وأن سلسلة الممكنات لا بد أن تنتهي إلى واجب ضروري هو علة كل شيء. إنه ضلال مركب، يظن صاحبه أنه علم بينما هو وهم، يتشبّث بظواهر من فلسفة حديثة تنكر المطلق أو بدعاوى حسية عاجزة عن إدراك ما وراءها. ومع ذلك فإن فطرته لم تُسحق بعد، بل لا يزال فيها بقية نور قابلة للإيقاظ. ولهذا جاء القرآن يخاطبهم بالجدال الحسن، يدعوهم بالحكمة والموعظة، لأنهم قابلون للهداية إذا صحت المقدمات وانجلى الغشاوة. وقد ضربت نصوص الوحي أمثلة كثيرة لمن كانوا في شك ثم اهتدوا، ولمن أصرّوا على الإنكار فعُوقبوا، فبيّنت أن باب الرحمة مفتوح ما دامت الفطرة قابلة للانبعاث.

أما المجسّمة فقصتهم مختلفة، فإنهم لم يضلوا قبل أن يعرفوا، بل ضلّوا بعد أن عرفوا. لم ينكروا وجود الله بل حرّفوا صورته، لم يعجزوا عن إدراك البراهين بل أعرضوا عنها عمدًا، لم يقفوا على أبواب المعرفة مترددين بل دخلوا ثم لوّثوا الداخل. لقد ورثوا نصوص الوحي، ووقفوا على قوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾، وسمعوا من السلف وأئمة الأمة إجماعًا على التنزيه، واطّلعوا على ما قرره فلاسفة الإسلام من أنّ واجب الوجود منزّه عن الحدود والجهات والجوارح، ومع ذلك آثروا حمل النصوص على ظاهرها المحسوس، فجعلوا لله يدًا كأيدي المخلوقات، ووجهًا كوجوههم، وعرشًا مكانًا يجلس عليه. وهكذا شوهوا التوحيد باسم التوحيد، وأدخلوا على العقيدة شركًا وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا.

وهنا يظهر الفرق العظيم بين الضلالين. فالإلحاد غربة عن النور، أما التجسيم فخيانة للنور. الملحد أشبه بإنسان في ظلمة ليل يبحث عن مصباح لم يجده، أما المجسم فأشبه بمن وجد المصباح ثم أطفأه وأخذ يضل الناس بضوئه المنكسر. ومن هنا كان خطر التجسيم أعظم من خطر الإلحاد، لأنه يفسد الدين من داخله، ويُغري العوام بظاهر النصوص، ويجعل صورة الله في قلوب المؤمنين صورة مشوّهة ناقصة، فإذا فسدت تلك الصورة فسد كل ما ينبني عليها من عبادة وخشية وتقوى.

وقد جاء التحذير النبوي صريحًا حين قال: «لا يتفكرون في الله ولكن يتفكرون فيما خلق»، فالتفكر في الذات الإلهية خارج دائرة التنزيه لا يقود إلا إلى التشبيه، وهو أسوأ مراتب الوهم. وقد حذر أئمة الأمة من ذلك، فالغزالي في “إلجام العوام عن علم الكلام” شدد على أن الخوض في الكيفيات والصفات على غير منهج التنزيه يفضي إلى فساد الدين، وابن حجر صرّح بأن المجسمة مبتدعة أشد من الفلاسفة، لأن الفيلسوف يخطئ في إثبات الوجود بينما المجسم يخطئ في صميم التوحيد. بل إن بعض العلماء عدوّا التجسيم بابًا من أبواب الكفر، لأنه يجعل الله شبيهًا بالمخلوقات، وهو شرك صريح وإن تزيّا بزي التوحيد.

ولئن كان الإلحاد يعالج بالبرهان العقلي والموعظة الحسنة، فإن التجسيم لا يعالج إلا ببيان أنه انحراف عن صميم النصوص وعن مقاصد الشرع والعقل، وأنه يخالف منهج السلف الذين قالوا: نثبت ما أثبته الله لنفسه بلا تكييف ولا تشبيه ولا تجسيم. أما من أصرّ على حمل الصفات على معاني الحس والجوارح فقد خرج عن جادة التنزيه وناقض قوله تعالى: ﴿ولم يكن له كفوا أحد﴾.

والتاريخ شاهد على أن الأمة حينما واجهت موجات من الإلحاد، كما في بعض فترات الترجمة للفلسفة اليونانية أو في عصور الانبهار بالعلم الغربي، عالجتها بالحوار العقلي والبرهان فأعاد كثيرًا من الضالين إلى الحق، أما موجات التجسيم فقد أحدثت فتنًا داخلية أعظم أثرًا، لأنها فرّقت الأمة وأشعلت الخلاف، وجعلت العوام في حيرة بين النصوص والبرهان، حتى صار بعضهم يتصور الله تصورًا جسميًا مادّيًا ينافي التنزيه المطلق.

ومن زاوية الفلسفة، فإنّ ابن سينا حين قرر أن واجب الوجود لا يقبل الحد والجهة والزمان إنما أقام قاعدة عقلية صارمة، وكذلك فعل الفارابي وابن رشد. وكلهم أجمعوا أن أي تحديد أو تشبيه للخالق يعني نفي وجوبه، لأن المحدود محتاج، والمحتاج ممكن، والممكن لا يكون إلهًا. ومن زاوية الشرع، فإن النصوص المحكمة تؤكد التنزيه في كل موضع، ﴿سبحان ربك رب العزة عما يصفون﴾، ﴿قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد﴾، ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾، وهذه النصوص وحدها كافية في هدم كل دعوى تجسيم وتشبيه.

فأي الفريقين أخطر على الأمة؟
الإلحاد وإن انتشر يبقى خارجيًا عن دائرة العقيدة، يمكن مواجهته بالجدال والحجة، أما التجسيم فهو داخلي ينخر في قلب العقيدة، يقلب التوحيد إلى شرك مستتر، ويجعل الأمة في خطر أعظم لأنها تظن أنها على الحق وهي في الباطل. ومن هنا يمكن القول: إن أخطر ما يهدد التوحيد ليس منكر الله من الخارج، بل من شوّه صورته من الداخل، ليس من قال “لا إله”، بل من قال “الله” وهو يقصده جسمًا محصورًا، وحدًا محدودًا، وصفةً من صفات المخلوقات. وهذا هو الضلال الأعظم الذي يجب التنبيه عليه والتحذير منه، لأنه يبدّل وجهة العقيدة ويجعل أصل الدين فاسدًا من داخله.