بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر _ أستاذ أصول التربية كلية التربية – جامعة الأزهر
الأسرة هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، وفيها تتكون القيم وتتشكل الهويات وتكتسب السلوكيات التي تحدد ملامح الأجيال المقبلة، والمرأة في هذا الكيان هي القلب النابض الذي يمنحه الحياة والاستقرار ويشكل وجدانه الأخلاقي والروحي، ويسهم في إعداد الأبناء للمستقبل وخدمة المجتمع، ومع تعاقب التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مصر والعالم، بات من الضروري إعادة إبراز دور المرأة في الأسرة، باعتباره محورًا أساسيًا للتنمية والاستدامة المجتمعية، وهذا يتوافق مع الرؤية الإسلامية التي جعلت من الأسرة ميثاقًا غليظًا قائمًا على المودة والرحمة، وأعلت شأن الأمومة والتربية الصالحة، فالإسلام ينظر إلى المرأة بوصفها شريكة في بناء الحياة وحافظة للقيم، ومسؤولة عن غرس الفضائل التي تحمي المجتمع وتنهض به.
وتتجلى أدوار المرأة في الأسرة منذ اللحظة الأولى لتكوينها، فهي الأم والمربية والقدوة الحسنة لأبنائها، وحاملة رسالة القيم والرحمة داخل البيت، ويمتد دورها ليشمل بناء منظومة متكاملة من الأخلاق والمبادئ، وترسيخ الهوية الوطنية، وتنمية حس المسؤولية والانتماء لدى الأبناء، وهذا الدور يتوافق مع ما أعلته الشريعة الإسلامية من مكانة للمرأة في الأسرة؛ فقد أوصى القرآن الكريم بحسن المعاشرة والمودة والرحمة، وأكد الرسول ﷺ علي أن المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، وأن الأم شريكة في صناعة الأجيال وحافظة للقيم، وقد عززت الدولة المصرية هذه المعاني من خلال مبادرات الدولة والمؤسسات التربوية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني لإعداد برامج تثقيفية للأمهات حول التربية الإيجابية وتدريبهن على مهارات الحوار والتواصل البناء مع الأبناء، مما انعكس بشكل إيجابي على سلوكيات الأبناء والأسرة، وأسهم في بناء جيل أكثر وعيًا وانتماءً.
وتؤدي المرأة دورًا محوريًا في إحلال التوازن النفسي داخل الأسرة؛ فهي الحاضنة للسكينة والرحمة، تخفف الضغوط اليومية وتنشئ بيئة دافئة تشعر جميع أفراد الأسرة بالأمان العاطفي، وفي المجتمع المصري تحديدًا، تتجلّى هذه المهمة في كونها غالبًا الوسيط الحكيم بين الأبناء والأب أو بين الأسرة والعائلة الممتدة، فتعيد اللحمة إلى العلاقات وتدير الخلافات بذكاء عاطفي وبعد نظر، وهذا الدور الخفي في كثير من الأحيان هو في الواقع أحد أعمدة استقرار الأسرة وتماسكها في مواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية ويتسق مع الرؤية الإسلامية للأسرة باعتبارها سكنًا ومودة ورحمةً كما جاء في قوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ “سورة الروم: آية21 “، فالإسلام جعل المرأة مصدر للسكينة والطمأنينة داخل البيت، مما يرسخ دعائم الأسرة ويقوي المجتمع.
وقد أصبحت المرأة شريكًا اقتصاديًا فاعلًا يساهم في رفع مستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة للأسرة بأكملها وفي مصر، تجلي هذا التحول من خلال البرامج الحكومية والمجتمعية التي أطلقت لتمكين المرأة اقتصاديًا، مثل دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتمويل الأنشطة المنزلية المنتجة، وتوفير فرص تدريب مهني للأمهات المعيلات، ما مكن آلاف الأسر من تحقيق الاكتفاء الذاتي وتجاوز الأزمات الاقتصادية، ويأتي هذا التوجه منسجمًا مع الرؤية الإسلامية التي تحث على العمل الشريف والسعي في الأرض للرزق الحلال، فقد مارست النساء في عصر النبوة أعمالًا تجارية ومهنية عديدة وأسهمت في دعم أسرهن والمجتمع، وكانت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها نموذجًا للمرأة المبادرة التي جمعت بين العمل والتكافل الأسري والاجتماعي، وبذلك تتضح صورة المرأة علي مر العصور القادرة على الجمع بين أدوارها الأسرية والمجتمعية بوصفها عنصرًا أصيلًا في التنمية والاستقرار.
وتزدهر الأسرة حين تشارك المرأة بوعي في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالتعليم والصحة والإنفاق والتخطيط للمستقبل؛ فحضورها في هذه المسائل يضيف بعدًا استشاريًا ويضفي على القرارات نضجًا وتوازنًا وعدلًا، وقد أصبحت المرأة المصرية اليوم أكثر حضورًا وتأثيرًا في هذا الجانب بفضل ارتفاع مستويات التعليم وانتشار الوعي بأهمية الشراكة داخل الأسرة، الأمر الذي انعكس في تعزيز انتماء الأبناء للأسرة وتحملهم المسؤولية مبكرًا، ويتوافق هذا مع التوجيه الإسلامي الذي يدعو إلى التشاور في شؤون الحياة الأسرية كما في قوله تعالى ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [سورة البقرة: آية 233]، مما يدل على أن الشراكة والتشاور بين الزوجين نهج أصيل في بناء الأسرة المستقرة والمتماسكة.
وأطلقت الدولة المصرية في السنوات الأخيرة مبادرات نوعية تستهدف المرأة بوصفها ركيزة الأسرة ومحورها الأساس؛ فبرنامج حياة كريمة لم يقتصر على تحسين البنية التحتية في القرى الأكثر احتياجًا، بل اهتم بتمكين المرأة في هذه المناطق عبر توفير برامج تدريبية وفرص عمل محلية تسهم في رفع دخل الأسرة وتعزيز استقلاليتها الاقتصادية، كما أنشأت الدولة وحدات متخصصة لحماية المرأة من العنف الأسري، مما وفر بيئة أكثر أمانًا ودعمًا للأسر، وتعكس هذه المبادرات وعيًا بأن تمكين المرأة هو في جوهره استثمار في الأسرة والمجتمع، وهو ما يتسق مع الرؤية الإسلامية التي جعلت كرامة المرأة وصون حقوقها مسؤولية شرعية، وأكدت على مكانتها المحورية في إصلاح المجتمع والأسرة، فمشاركتها وتمكينها عنصر أساس في تحقيق التنمية الشاملة والاستقرار الأسري.
وحين تمنح المرأة الفرصة الحقيقية لتطوير ذاتها وتمكينها علميًا واقتصاديًا وثقافيًا، ينعكس ذلك مباشرة على الأسرة بأسرها؛ فالأم الواعية تصوغ جيلاً أكثر التزامًا بالقيم والفضائل، والأبناء الذين ينشؤون في بيئة تحترم فيها مكانة المرأة يتبنون سلوكيات أكثر عدلًا واتزانًا في تعاملاتهم المستقبلية، كما أن المشاركة الاقتصادية للمرأة تسهم في الحد من الفقر وتعزيز قدرة الأسرة على مواجهة الأزمات، ومن ثم تصبح الأسرة التي تقودها امرأة متمكنة واعية نواةً لمجتمع أقوى وأكثر تماسكًا، وقد أظهرت التجربة المصرية أن تمكين المرأة استثمار مباشر في استقرار الأسرة وازدهار المجتمع، وهذا النهج يتوافق مع الهدي الإسلامي الذي رفع من شأن المرأة وأمر بتمكينها في جميع المجالات، فتمكينها في العلم والعمل الشريف هو في حقيقته تمكين للأسرة كلها، ولبنة راسخة في بناء مجتمع متوازن وقادر على مواجهة تحديات المستقبل.
ونؤكد أن الأسرة المصرية كانت وستظل الدرع الحصين للوطن، والمرأة فيها هي القلب النابض والركيزة التي يستند إليها البناء كله، وقد كرمها الإسلام تكريمًا فريدًا، تأكيدًا على عِظم مكانتها في صناعة الأجيال وبناء الأمم، فالأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق، وهو قول يلخص حقيقة أن النهوض بالمجتمع يبدأ من النهوض بالمرأة والأسرة، فكل أسرة تقودها امرأة واعية، وكل بيت يجد فيه الأبناء أمًا مثقفة رحيمة، نواة لمجتمع متماسك قادر على مواجهة التحديات وصنع المستحيل، يزدهر البيت ويقوى الوطن؛ ولذلك، فإن حفظ الله لبلادنا وصون الأسرة المصرية نعمة تستوجب الشكر والسعي في الأسباب؛ بالتمسك بالقيم الدينية، وتعزيز ثقافة الشراكة داخل الأسرة، وتقدير دور المرأة بوصفها شريكة حقيقية في صناعة الغد، وهكذا تتحول الدعوات الطيبة إلى التزام عملي يترجم في السياسات والمبادرات والأفعال اليومية، ليبقى الوطن شامخًا والأسرة المصرية قوية، والمرأة فيه عنوانًا للكرامة والعطاء والقدوة الحسنة.