للسادة الخطباء : مبحث بعنوان ( وصية الرسول بالمعلم وتوقيره وبيان شرف العلماء ) للشيخ رضا الصعيدى
14 سبتمبر، 2025
خطب منبرية
للسادة الخطباء :
مبحث بعنوان ( وصية الرسول بالمعلم وتوقيره وبيان شرف العلماء )
للشيخ رضا الصعيدى
لتحميل المبحث pdf اضغط أدناه
tawqer almolem
كيف رفع الله شأن العلماء ؟
وكيف خصهم بكرامة الدنيا وشرف الآخرة ؟
ما معنى توقير المعلم ؟
مع بيان صور من توقير المعلم والعالم ؟
وما ثمرات ذلك في الدنيا والآخرة ؟
أهمية المعلم والعلم :
ان للمعلمين والعلماء في شريعتنا منزلة سامية منيعة، ومكانة عالية رفيعة، “فالعلماء هم خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا.. يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيَوْه، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هَدَوْه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم”! (مقتبس من كلام الإمام أحمد).
يقول الله تبارك تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
وخصهم اهل العلم بانهم اهل الخوف والخشيه فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ، ويرفع الله الذي يطلب العلم والذي يعمل به كما يشاء، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) أي يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم درجات أي على من سواهم في الجنة.
قال القرطبي : قوله تعالى : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات أي : في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا .
وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة ، فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير إذا جاء نصر الله والفتح فسكتوا ، فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه . فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : بين العالم والعابد مائة درجة ، بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة .
وصية الرسول بالمعلمين والعلماء :
جاء عنه صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب . وعنه عليه الصلاة والسلام : يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء.
وأخبرنا أن العلماء يستغفر لهم مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ :
عَن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ يَقُولُ:” وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغفِرُ لهُ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ حَتَّى الحِيْتَانُ في المَاءِ؛ وفَضْلُ العَالِمِ عَلى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ على سَائِرِ الكَوَاكِبِ “.( أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه بسند حسن).
وأخبرنا بصلاة الله عليهم :
جعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم منزلة العلماء تضاهي ما قاله الله في كتابه في حق الرسل والأنبياء، يقول الله في حقِّ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (56الأحزاب)، ويقول صلى الله عليه وسلَّم: (“إن الله وملائكته والنملة في جُحرها والحيتان في بحارها ليصلون على معلم الناس الخير”( الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه).
وأنهم وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ:
ففي الحديث ” وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”.
وهم أولياء الله :
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “والذي نفسي بيده، ليودَّنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم” أي من كرامة العلماء.
وهم أهل الغبطة:
ومع أن الإسلام حرم الحسد إلا أن الشارع أباحه في مجال العلم، فعَنْ ابنِ مَسْعودِ رضيَ الله ُ عنهُ قال: قالَ رسول اللهِ صلى اللهُ عليْهِ وسلَمَ:”لا حَسَدَ إلاَّ في اثنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاه اللهُ مَالاً فسَلَّطَهُ عَلى هَلَكتِهِ في الحَقَّ ورَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقضِي بِها وَيُعَلِمُّها”(متفق عليه).
وأن لهم اجر مثل أجور من تبعهم على الخير:
عن أبي هريرة أن رسول الله r قال من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ” ([1]) ، ويحضرني قول الإمام الشافعي رحمه الله:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
بركة مجلسهم :
وقد ورد فى الأثر: مجلس علمٍ وإن قل خيرٌ من عبادة سبعين سنة ليلها قيام ونهارها صيام).
العلماء مجاهدون :
فعلى مدار لأعمارهم يطلبون العلم ، لما رَوى أنس فقال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَن خرجَ في طلب العلمِ، فهو في سبيل الله حتى يَرْجِع”( الترمذي).
يوزن مداد العلماء بدم الشهداء:
قال الحسن البصري رضي الله عنه :ـ يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء..
وهم طريق الى الجنة :
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلي الجنة ” ([2]).
مجلسهم روضة من رياض الجنة في الأرض:
يقول عليه الصلاة والسلام : إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: الْمَسَاجِدُ، قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ’’ الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه] ، ((قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ )) ..
فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ:
في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَابِدٌ، وَالْآخَرُ: عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ”.
العالم أمين الله في أرضه :
جاء في بعض الآثار: “أن العالم أمين الله في أرضه” ، ويؤيده قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [سورة النساء: الآية 83].
قال تعالى: ” فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ” [النحل/ 43] ,وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء، ودواؤه العلم (لحديث جابر في صحيح أبي داوود) أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: ” فإنما شفاء العي السؤال.
– وروي أن الشافعي رحمه الله كان يجلس ذات يوم في مجلس الدرس فإذا بإبليس عليه اللعنة يجلس بين تلاميذه في صورة رجل منهم ثم يوجه إليه هذا السؤال : ما قولك فيمن خلقني كما اختار واستخدمني فيما اختار وبعد ذلك إن شاء أدخلني الجنة وإن شاء أدخلني النار .. أعدل في ذلك أم جار ؟ وبنور من الله عرفه الشافعي فأجابه قائلاً : يا هذا إن كان خلقك لما تريد أنت فقد ظلمك وإن كان خلقك لما يريد هو فلا يسئل عما يفعل .
وهم صمام الأمان للأمة بعد الله عزوجل:ـ
إن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فذهاب العلماء هلاك الناس، فهم صمام الأمان بعد الله – عز وجل ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (أخرجه أحمد ،والبخاري ، ومسلم).
وهم الذين لهم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم :
ولا يخفى على كثير منا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلّ على رجلٍ عابد فسأله هل له من توبة ؟ فكأن العابد استعظم الأمر فقال: لا فقتله فأتم به المائة، ثم ذهب إلي عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دلّه على بلد أهله صالحون ليخرج إليها فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق ….. والقصة مشهورة فأنظر الفرق بين العالم والجاهل .
وجوب توقير المعلم :
ومعنى ذلك أن يكون الشيخ والأستاذ محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف عند جلوسك والتحدث معه ، وقديما قالوا من علمني حرفا صرت له عبدا .
وإنما جاء الشرع بهذا التوقير والتعظيم للعلماء؛ لما فيه من مصالح عظيمة؛ فإن توقير العلماء أدعى إلى توقير علمهم الذي يحملونه وأقرب إلى أن يحرصوا على بذله للناس، فإن التوقير والأدب والتلطف يستدر بها العطف والود، كما أن في ازدرائهم وإهانتهم خطراً على المجتمع بكتمانهم العلم أو عجزهم عن إبلاغه، أو استهانة الناس بهذا العلم الذي يحملونه ..
ان تعظيم العلماء وتقديرهم من تعظيم شعائر الله قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، وقال جل وعلا: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، والشعيرة كما قال العلماء: “كل ما أذن وأشعر الله بفضله وتعظيمه. والعلماء بلا ريب يدخلون دخولاً أوليًّا فيما أذن الله وأشعر الله بفضلهم وتعظيمه بدلالة النصوص الكريمة السالفة الإيراد”.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله – سبحانه – ويتقرَّبون إليه باحترام العلماء الهداة، بلا غلوٍّ ولا جفاء؛ قال أبو جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة: “وعلماء السلف من السابقين، ومَن بعدهم من التابعين، أهلُ الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذَكَرهم بسُوءٍ، فهو على غير السبيل“..
واليك صور من توقير المعلم والعالم :
المبادرة الى خدمته :
كان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردًا فقدماها، فرفع ذلك الخبر إلى المأمون، فوجه إلى الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردًا!! فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم…
قيلَ للإسكندر : ما بالُ تعظيمك لمؤدِّبك أكثر من تعظيمك لأبيك ؟ قال : لأنَ أبي سبَبُ حياتي الفانية ومؤدِّبي سببُ حياتي الباقية .
شرف الوقوف على بابه :
كان ابن عباس يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك، فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس في الصباح، وكان يقول: أجلس عند باب أحدهم فتسفني الريح على وجهي ثم يخرج، فيقول زيد: يا ابن عم رسول الله، أنا أحق أن آتيك، فأقول: لا. أنا آتيك، العلم يؤتى ولا يأتي.
هيبة المعلم :
وكان السلف عليهم رحمة الله أشد الناس توقيرًا لشيوخهم، ومعرفة لفضل علمائهم؛ فقد {صلى زيد بن ثابت رضي الله عنه على جنازة، ثم قُربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس، فأخذ بركابه، فقال له زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
وعن المغيرة قال: كنا نهاب إبراهيم النخعي كما يُهاب الأمير.
وعن أيوب قال: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث سنين، فلا يسأل عن شيء هيبة له.
وعن إسحاق الشهيد قال: كنت أرى يحيى بن سعيد القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة بالمسجد؛ فيقف بين يديه علي بن المديني، والشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيره يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبة له وإعظامًا.
ويقال: إن الشافعي رحمه الله عوتب على تواضعه للعلماء؛ فقال:
أُهينُ لَهُم نَفسي فهم يكرمونها وَلن تُكرَمَ النَفسُ الَّتي لا تُهينا
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، قَالَ: “مَا كَانَ إِنْسَانٌ يَجْتَرِئُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ”.
وقَالَ ابْنُ الْخَيَّاطِ يَمْدَحُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ:
يَدَعُ الْجَوَابَ فَلَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً*** وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَان
نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى *** فَهُوَ الْمُهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ”
وَقَالَ أحمد بن حنبل لخلف: “لَا أَجْلِسُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْهُ”.
وعن الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ، يَقُولُ: “كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنَ الرَّجُلِ الْحَدِيثَ، كُنْتُ لَهُ عَبْدًا مَا حَيِيَ، فَكُلَّمَا لَقِيتُهُ سَأَلْتُهُ عَنْهُ”
الهيبة عند ذكر أسمائهم :
وروى الخطيب بسنده عن عبيد الله بن عبد الكريم قال: سمعت أحمد بن حنبل وذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان من علماء السلف، وكان متكئاً من علة، الإمام أحمد كان يؤلمه جسده فكان متكئاً فلما ذكر إبراهيم بن طهمان، اعتدل فاستوى جالساً، فقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون ونحن متكئون.
التبكير في طلب العلم عندهم :
وقال محمد بن حبيب – رَحِمَهُ اللَّهُ -: “كنا نحضر مجلس أبي إسحاق إبراهيم بن علي لطلب الحديث، فكان يجلس على سطحٍ له ويمتلئ هذا الشارع بالناس الذين يحضرون للسماع ويبلغ المستمعون عن هذا العالم.
قال: وكنت أقوم في السحر فأجد الناس قد سبقوني وأخذوا مواضعهم، وحُسب الموضع الذي يجلس الناس فيه، فوجد مقعد ثلاثين ألف رجل” الشارع يمتلئ الذي فيه العالم المحدِّث، وكان هذا الرجل حريصًا أن يأتي في السحر، فجاء في السحر أي: قبيل الفجر، فوجد أن المكان قد امتلأ بالناس من شدة حرصهم، وحُسب أعداد الناس في هذا الشارع فوُجد أنهم ثلاثون ألف رجل.
يقول الإمام أحمد بن حنبل – رَحِمَهُ اللَّهُ -: كنت ربما أردت البكور إلى الحديث -يعني يريد أن يخرج قبل أذان الفجر، يريد أن يخرج من بيته قبل أذان الفجر ليذهب إلى العلماء- فتأخذ أمي ثيابي وتقول: حتى يؤذن للفجر. يقول: أجلس، وكنت ربما بكَّرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش وغيره قُبيل الفجر؛ من شدة الحرص يا إخواني الكرام، ويجلسون بين يدي العلماء بالتوقير والتعظيم الشديد والتجرد الشديد، من أجل هذا جعل الله لهم قبولًا بين الناس ببركة هذا الإخلاص الذي في قلوبهم.
السفر اليهم :
قال أبو العالية – رَحِمَهُ اللَّهُ -: كنَّا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، فلم نرضَ حتى ركبنا الإبل وذهبنا لأصحاب النبي في المدينة المنورة.
قال أبو داود الطيالسي – رَحِمَهُ اللَّهُ -: أدركت ألف شيخ كتبت عنهم العلم.
قال سعيد بن المسيب -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن كنت لأغيب الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. حديث واحد من أجله يتغيب عن أهله الأيام والليالي في طلب حديثٍ واحد.
أحد السلف يقول: خرجت من بلاد الشام من دمشق إلى مصر، ومن مصر إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى العراق، ثم من العراق إلى الحجاز مرةً أخرى، يقول: سبع سنين، يقول: كل هذا على قدميَّ. وأنتم تعرفون أنه في الطريق لا يوجد ماء، وأحيانًا لا يوجد طعام، وأحيانًا لا توجد دابة تحمل طالب العلم إلى ما يريد، فتحدث لهم أحوال وحاجات ومشاق، كل هذا إخلاصًا لله، تجردًا لله، وطلبًا لمرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الذهول بين يديه :
قال محمد بن قدامة: “سمعت شجاعًا يقول: سمعت أبا يوسف يقول: مات ابنٌ لي فلم أحضر تجهيزه ولا دفنه، وتركته على جيراني وأقربائي؛ مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني!”.
وكذلك مواصلة الدعاء لهم:
كما قال النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس لَمَّا رأى ذكاءَه: “اللهم فقهه في الدين، وعَلِّمه التأويلَ”؛ فنال مكانته بفضْل دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – له – رضي الله عنه.
روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه صلى على جنازة فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه، فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء… فقبَّل زيد بن ثابت رضي الله عنه يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم .
فعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه ويوقِّره ويقدِّمه، ويمسك له دابته رغم صغر سنه، وليس ذلك لشيءٍ إلا لعلمه وفقهه، وكان هذا عموم حال الصحابة رضي الله عنهم وعهدهم مع العلماء.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرًّا، ولا تغتابن أحدًا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته” (إحياء علوم الدين)… وقال علي رضي الله عنه أيضًا منشدًا:
مـا الفخـر إلا لأهــل العلــم إنهــم ** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقــدر كل امــرئٍ ما كان يحسنـه ** والجاهلــون لأهــل العلم أعـداءُ
ففــزْ بعلــمٍ تعــشْ حيًّــا بـه أبــدًا ** الناس موتى وأهل العلــم أحياءُ
بل يذكر الغزالي رحمه الله في الإحياء أن حق المعلم أعظم من حق الوالدين؛ لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة (إحياء علوم الدين).
ويروي عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف عالمنا” : أي يعرف لعالمنا حقه.
وفي سبيل التربية على ذلك يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه ناصحًا ومرشدًا: “يا بنى، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا -وإن طال- حتى يسمِّك”. وعلى هذا ظلت مكانة العلماء محفوظة ومرموقة في الأمة الإسلامية، وظل قدرهم مرفوعًا فوق غيرهم من المسلمين.ولقد كان الناس يجتمعون بالآلاف حول البخاري رحمه الله ليعلمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره!!
معرفة أن النيل منهم نيل من رسول الله صلي الله عليه وسلم :ـ
حذرالإسلام من إيذاء العلماء فيقول عكرمة رحمه الله :”إياكم أن تؤذوا أحدًا من العلماء، فإن مَن آذى عالمًا فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم حملة كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذائدون عن حياضه، المنافحون عن كلامه، رحمهم الله.
خطر غيبة العلماء أو انتقاصهم:
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في بيان فضل العلماء وخطر شأنهم: واعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12] .
كذلك من الأدب مع العلماء: عدم ضرب أقوالهم ببعض، كأن تأتي إلى العالم تسأله ثم بعد أن يجبك تقول: لكن فلان يقول بخلاف قولك، تقصد أن تضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، عندهم، وإظهار ما لديك من علم أو متباهياً به مع هذا العالم، هذا خطأ.
ستر زلات العلماء وأخطائهم:
أيضاً من الآداب الواجبة نحو العلماء ستر زلاتهم، وأخطائهم وهذا سنتكلم عنه بعد قليل كلاماً مفصلاً، لكن الذي أقوله الآن: أن بعض الناس -للأسف- مثل الذباب لا يقعون إلا على النجاسات والأوساخ.
الصبر على جفوة الشيخ:
الصبر على جفوة الشيخ قد يكون الشيخ مثلاً فيه جفوة أو شدة، والناس خلقوا على طباع مختلفة، فيهم الشديد والسهل واللين، والعلماء من البشر قد يقع عند بعضهم شيء من هذا.
ثمرات توقير العلماء :
شرف التلقي :
ان علماء السلف أخذوا هذا العلم كابرًا عن كابر، أخذوه عن شيوخهم، أما من يأخذ العلم من الكتاب فهذا ربما أخطأ في الفهم، فكانوا يقولون: لا تأخذوا العلم من صحفي، أي: الذي جعل الصحيفة هي الأستاذ الذي يفهم منه.
ومن أخذ العلوم بغير شيخٍ
يضل عن الطريق المستقيمِ
وكم من عائبٍ قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
كانوا يسمعون بالحديث في البصرة، فقالوا: كيف نرضى بهذا وأصحاب النبي على قيد الحياة. فرحلوا من البصرة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرفوا باللقيا ورؤية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يكن في قلبهم شيءٌ من الإخلاص والتجرد والنية الصادقة في تبليغ هذا العلم للناس، واللهِ لما تمكنوا من فعل ذلك أيها الأحبة.
الفوز بطاعة الله الذي أمر بطاعتهم والحذر من انتقاصهم :
ان الله تعالى أوجب على المؤمنين طاعتهم ما أطاعوه ورسوله، فقال -جل شأنه-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)(رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليخشَ الطاعنون في العلماء، المستهزئون بهم عاقبةً من جنس فعلهم؛ فعن إبراهيم النخعي – رحمه اللَّه – قال: إني أجد نفسي تحدِّثُني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أُبتلى به، ورُوِي عن الإمام أحمد أنه قال: “لحوم العلماء مسمومة؛ مَن شمها مَرِضَ، ومَن أكَلَها مات“ .
عباد الله: إن الجناية على العلماء خرق في الدين، قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: “مَن استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومَن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته“، وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: “الوقيعة في أهل العلم ولاسيما أكابرهم من كبائر الذنوب“..
وما أجمل قول ابن عساكر بعد هذه الأقوال الجميلة: “واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور:63).
والعلماء هم من أولياء الله تعالى ، روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي -رحمهما الله- أنهما قالا: “إن لم تكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي”. قال الشافعي: “الفقهاء العاملون”، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما: “مَن آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومَن آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد آذى الله -عز وجل”.
هؤلاء العلماء أيُّها الأحبَّة، عُلماءُ الأمَّة المحمَّدِيَّة، لعظيم دورهم ولشريف مقامهم ولكونهم سدًّا منيعًا يحفظُ دين الله، ويحفظُ شرعَ الله من تحريفِ الغلاة وانتحالِ الأدعياء وتأويل الجهلاء، تراهم دائمًا غرضًا وهدفًا لكلِّ أعداء الدين، فالقدحُ بالحامِل يُفضي إلى القدحِ بما يحمله من رسالةِ البلاغِ لدين الله ولشرع الله؛ لما عجِز المبطِلون في الطعن بشرع الله عمدوا للطعن في حملته، كما فعل الرافضة المجوس لما عجزوا عن الطعن في سنة رسول الله طعنوا في الصحابة الكرام، فإذا طعنت في حامل الرسالة فقد طعنت في الرسالة نفسها وفقدت مصداقيتها، كذلك فعل المبطِلون والجهلاء والعملاء في زماننا، تراهم يطعنون بالعلماء لكي يطعنوا برسالتهم، لذلك قال العلماء إن من أهم أسباب الإلحاد: ” القدحَ بعلماء الشريعة “، من أهم أسباب الإلحاد التي تشجع الناس على ترك دين الله، وعلى الطعن في دين الله أن نطعن بعلماء الشرع، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً “، هذا من برتكولات الصهاينة وهذا مكرهم .
الواجب علينا :
احذر الذنوب :
علي بن خشرم، قال: شكوت إلى وكيع قلة الحفظ، فقال: ” استعن على الحفظ بقلة الذنوب “
قال محمد بن رافع: قيل لسفيان بن عيينة: بم وجدت الحفظ؟ قال: ” بترك المعاصي “
شكوت إلى وكيع سوء حفظي. *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذلك أن حفظ العلم فضلٌ *** وفضل الله لا يؤتاه عاص
طلب الاستزادة من العلم:
وقد أمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم وكفى بها من منقبة عظيمة للعلم، فقال الله تعالى: ” وقل رب زدني علمًا ” [طه: 114]، قال القرطبي: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم.
توقير العلماء بعضهم بعضاً:
كذلك يا إخواني موقف العلماء بعضهم من بعض يدل على صفات عظيمة يجب أن تكون في العلماء، فثناء بعضهم على بعض كان صفة لازمة للمخلصين منهم، كانوا يثنون على بعضهم في المجالس وفي حلقات العلم، وكان اللاحق منهم يترحم على السابق إذا ذكر فائدة أخذها عنه.
أدب النقاش والمجادلة:
وكذلك حسن الظن بهم إذا أخطئوا، والهدوء في النقاش معهم وعدم مجادلتهم وممارتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم) حديث صحيح. ولا يكثر الكلام عند العالم من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب.
تم البحث بحمد الله في سبتمبر 2025، أخوكم الشيخ / رضا الصعيدي
([1]) صحيح مسلم
([2]) صحيح مسلم