روح الإسلام منظومة قيمية لبناء الوعي والنهضة
30 أغسطس، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر _ أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر
يشكل الإسلام في جوهره منظومة قيمية متكاملة، تلامس أعماق الوجود الإنساني وتوجه مسارات الحضارة، فحين نتأمل روح الإسلام نجدها طاقة محركة للوعي، ودافعًا للنهضة، وأفقًا رحبًا يربط بين الإيمان والعمل، بين القيم والممارسة، وبين الفرد والجماعة، وهذه الروح مثلت مصدرًا حيا للتجديد والإبداع، واستطاعت أن تمنح الأمة الإسلامية القدرة على صياغة مشروع حضاري تميز عبر العصور ومازال بقدرته على الجمع بين الثبات والتطور، والحديث عن روح الإسلام يعد استشراف للمستقبل، لأنها تمثل الإطار المرجعي الذي يحدد اتجاهات الأمة، ويحميها من الانحراف، ويمنحها القدرة على مواجهة التحديات بروح واثقة وبصيرة نافذة.
وتحمل رسالة الإسلام روحًا محركة للإنسان والمجتمع، وتتجلي في مقاصد الشريعة التي تقوم على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وتستهدف تحقيق الكرامة الإنسانية وصيانة الحياة، ويؤسس الإسلام لروح حضارية تجعل من الإنسان محور الوجود، ومن كرامته أساس التشريع والقانون، وهذه الروح الجامعة تجعله دينًا عالميًا يتجاوز الحدود الضيقة للأعراق والجغرافيا، لتلتقي عنده الإنسانية في رحاب الرحمة والعدل ويتفاعل معها ويغتني بها، ويدعو الإنسان إلى أن يكون خليفة في الأرض بالإعمار الرحمة والإنسانية.
وتتجلي روح الإسلام في مجموعة من القيم الكبرى التي أسست لنهضة الأمة عبر التاريخ، ومنها قيمة التوحيد التي تحرر الإنسان من الشهوات، وتمنحه وعيًا عميقًا بكرامته كعبد لله وحده، وقيمة العدالة التي تشكّل أساس العمران البشري، فلا يمكن أن تقوم حضارة على الظلم أو الاستبداد، وقيمة الرحمة لتي تجعل من العلاقات الإنسانية مجالاً للتكافل والإحسان، وتوسع دائرة الأخوة الإنسانية، وقيمة الحرية التي يقررها الإسلام باعتبارها شرطًا لصدق الإيمان وصحة الاختيار، وقيمة العلم التي رفعها الإسلام إلى مرتبة العبادة، واعتبرها طريقًا لفهم الوجود وتسخير الكون، وتعد هذه القيم مجتمعة ممارسات عملية تهدف إلى بناء مجتمع متوازن، تسوده الطمأنينة الروحية والعدالة الاجتماعية والتقدم العلمي.
وبمثل الوعي الثمرة الأولى لروح الإسلام، فالإسلام جاء ليحرر العقل من الخرافة، وليوقظ في الإنسان ملكة التفكير والتأمل، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على النظر والتدبر والتفكر في الكون والإنسان والتاريخ، وهذا الوعي لا يتوقف عند المعرفة العقلية، بل يمتد ليشمل الوعي الأخلاقي والوجداني والاجتماعي، ولذلك فروح الإسلام تبني وعيًا متكاملًا يجعل الإنسان مسؤولًا عن نفسه وعن مجتمعه وعن الكون من حوله، كما تربي على إدراك قيمة الوقت، وأهمية العمل، وضرورة تحمل المسؤولية، كما تحرر الإنسان من السلبية والانهزامية، وتمنحه طاقة الأمل والإيجابية. وبذلك يصبح الوعي الإسلامي وعيًا حضاريًا، يتفاعل مع العصر دون أن يفقد هويته.
ولقد استطاعت روح الإسلام أن تؤسس واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، حين جمعت بين الدين والعلم، بين الروح والعقل، بين القيم والأدوات، فالنهضة الإسلامية في عصورها الذهبية كانت نهضة فكرية وثقافية وعلمية، غذتها قيم الإسلام وروحه، فالطب والفلك والفلسفة والعمارة والأدب ازدهرت لأنها استندت إلى روح تحفز على البحث والاكتشاف والتجديد، وهذه الروح هي نفسها التي تستطيع أن تكون اليوم مصدرًا لإحياء الأمة ونهضتها، إذا ما استطعنا أن نستعيد الوعي بمقاصدها، وأن نوظفها في مواجهة تحديات العصر.
خاصة في ظل يعيش العالم أزمات كبرى، صراعات هوية، تفكك مجتمعي، استلاب ثقافي، وأزمات بيئية وأخلاقية، وهنا تبرز أهية روح الإسلام كمنظومة قيمية قادرة على تقديم حلول إنسانية عميقة فهي روح تدعو إلى الوسطية، في مواجهة التطرف والعنف، وتؤكد على العدالة الاجتماعية، في مواجهة الفقر والتهميش، وتشجع على الإبداع والعلم، ومواجهة الجهل والتقليد الأعمى، وتؤكد علي التسامح والحوار، في مواجهة صدام الحضارات والانغلاق، وبذلك تكون روح الإسلام مشروعًا عمليًا للنهضة، يستمد جذوره من القيم الإسلامية، وينفتح على مكتسبات الإنسانية جمعاء.
إن استلهام روح الإسلام في واقعنا المعاصر يقتضي الانفتاح على المقاصد الكلية للشريعة، فالمطلوب توظيف روح الإسلام في بناء حاضر ومستقبل أكثر إنسانية وعدلاً ويتطلب ذلك إصلاح التعليم ليكون حاملًا للقيم وروح التجديد، وإحياء الفكر الإسلامي بروح نقدية واعية تستلهم النصوص وتواجه التحديات، وتعزيز الثقافة القيمية في المجتمع لمواجهة تيارات التفكك والانحراف، ودمج القيم الإسلامية في مشاريع التنمية والسياسات العامة، فالأمة التي تستلهم روح الإسلام قادرة على تحويل هذه الروح إلى طاقة حضارية، تعيد للإنسان مكانته، وللمجتمع توازنه، وللحضارة الإسلامية إشعاعها.