العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات
30 أغسطس، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الدكتور: حاتم عبد المنعم أستاذ علم الاجتماع البيئى بجامعة عين شمس
أصبحت مسألة حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة من أهم قضايا السياسة الدولية بروزًا في المحافل والمؤتمرات العالمية. ولحقوق الإنسان جذور قديمة، وقد أسهبنا في مواضع كثيرة في توضيح حقوق الإنسان بوجه عام، وحقوق الفقراء بوجه خاص في الإسلام.
قال تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء: 70]
ومن أقدم الوثائق الدستورية التي تناولت الحقوق الإنسانية صحيفة المدينة، والتي أكدت على حقوق غير المسلمين وحقوق المواطنة.
ثم جاءت بعد ذلك مجهودات معاصرة، من أهمها الثورة الفرنسية، ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م (الراجحي، 2005، ص92).
وقد بدأ الجيل الأول في مجال حقوق الإنسان بالحقوق المدنية والسياسية، وتلاه الجيل الثاني الذي تمثل في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ثم جاء الجيل الثالث وهو الحقوق البيئية (الزَيب، 2001، ص164). وهذا ما سنستعرضه سريعًا.
المساواة العادلة في الحقوق المدنية والسياسية :
تدور معظم الحقوق المدنية والسياسية حول محورين متكاملين، وهما: المساواة والحرية. ويمكن تفصيلهما على النحو التالي:
أولًا: المساواة:
المقصود بها ليس المساواة في الثروة، وإنما المساواة في توفير الفرص التي تساعد الإنسان على الانطلاق لبناء حياته والمساهمة في تنمية مجتمعه وفقًا لإمكاناته.
ومن الطبيعي أن تختلف النتائج والعوائد من فرد لآخر، ولن يحدث تساوٍ كامل في الثروة أو في المخرجات. لكن الأهم هو إتاحة فرص التعليم الجيد لكل المواطنين، وكذلك توفير العلاج، وفرص العمل، والحقوق العامة.
وتعني المساواة أيضًا أن يكون الجميع متساوين أمام القانون دون أي تحيّز بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو أي اعتبار آخر.
وتتمثل المساواة في عدة أوجه، من أهمها ما يلي:
أ- المساواة أمام القانون:
ويقصد بها أن يصدر كل تشريع دون تمييز بين شخص وآخر أو بيئة وأخرى، وألا يكون التشريع في مصلحة فئة معينة أو جماعة محددة. كما تعني أن تكون العقوبة على الجريمة واحدة لجميع المواطنين دون استثناء.
وقد أكد الرسول ﷺ على ذلك بقوله:
«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» [متفق عليه].
وفي حديث آخر قال ﷺ:
«إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» [رواه البخاري].
ب- المساواة أمام القضاء:
وذلك بأن يكون جميع الأفراد سواسية أمام القضاء، فلا يُميز بينهم بسبب الانتماء الطبقي أو الديني أو العرقي، وأن يتمتع الجميع بحق التقاضي أمام محاكم عادلة ومستقلة.
ج- المساواة في فرص العمل والتوظيف:
وتعني عدم تمييز فئة على أخرى أو فرد على آخر في تولي الوظائف العامة أو في فرص العمل، وألا يُمنع أحد من وظيفة معينة بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو الانتماء الاجتماعي.
د – المساواة في الخدمة العسكریة:
فلا یجوز إعفاء أحد أو قصرھا على فئة أو قطاع معین.
ھـ – المساواة في الحقوق السیاسیة:
سواء الإنتماءات أو حق الترشح طالما توافرت الشروط القانونیة.
ثانيًا: المساواة والعدالة في الحريات :
الحريّة بوجه عام حقٌّ إنساني، لكنها ليست مطلقة، بل مقيدة بمصلحة المجتمع، ويقوم المشرّع بتنظيمها بعدة صور، من أهمها ما يلي:
أ- الحرية الشخصية:
وتشمل حرية الإقامة والتنقل، وعدم تقييد حركة الفرد إلا بما يقرره القانون.
ب- حرية التملك:
ويقصد بها حق الفرد في التملك، واستعمال ملكه واستغلاله والتصرّف فيه، مع جواز نزع الملكية للمنفعة العامة مقابل تعويض عادل.
ج- حرمة المسكن:
وهي عدم جواز اقتحام المسكن أو تفتيشه إلا بإذن من النيابة أو الجهات القضائية المختصة.
د- حريات أخرى:
وتشمل عدة صور، منها:
حرية العمل والتجارة.
الحرية الدينية وحرية العقيدة والعبادة.
حرية الرأي والاجتماع والتعبير.
وفي هذا السياق، نذكر واقعة تاريخية تؤكد احترام الحريات الدينية:
حين كان الوليد بن عبد الملك واليًا على الشام، هدم جزءًا من كنيسة يوحنا ليقيم عليه امتداد المسجد الأموي. فشكا مسيحيو الشام الأمر إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. وبعد نظره في القضية أصدر عمر أمرًا بهدم الجزء الذي أُقيم من المسجد على أرض الكنيسة، وإعادته لأصحابها. عندها تنازل المسيحيون عن هذا الجزء ورضوا ببقاء المسجد كما هو (خالد محمد خالد، ص 767–768).
المساواة والعدالة في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية:
بدايةً، هناك تشابك بين الحقوق وبعضها البعض، ولكن هذا الفصل للتوضيح فقط. ويمكن إيجاز أهم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الآتي:
أ- الحق في توفير الحد الأدنى من التعليم الإلزامي الجيد:
لجميع المواطنين بلا استثناء الحق في الحصول على حدٍّ أدنى من التعليم الإلزامي الجيد، لأن هذا ليس مجرد حق شخصي، بل هو حق مجتمعي. فكم من العلماء والعباقرة كانت نشأتهم في أسر فقيرة لا تستطيع تعليم أولادها على نفقتها، وبالتالي استفاد المجتمع بتفوق هؤلاء من ناحية، ومن ناحية أخرى كان يمكن لهذا الفرد – لولا تعليمه – أن يكون إنسانًا سلبيًا أو عاطلًا أو غير ذلك إذا لم تتوافر له فرص التعليم الجيد. (Martinez, 210)
ب- الحق في الرعاية الصحية الجيدة:
إن للإنسان الحق في توفير الرعاية الصحية الجيدة بدون تمييز لفئة أو جماعة أو غيرها، وهي مسؤولية الدولة أيضًا.
ج- الحق في فرص متساوية من العمل:
لجميع المواطنين الحق في الحصول على فرص متساوية من العمل بلا استثناء، وكثير من الدول تعطي إعانة بطالة لمن لا يعمل.
د- الضمان الاجتماعي:
لابد من توافر نظام التضامن الاجتماعي لتوفير حياة كريمة للفقراء والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة.
هـ- حقوق المرأة:
من حقوق المرأة أن تحصل على فرص متساوية في التعليم والعمل والأجر والترقي، بدون أي تمييز جنسي على الإطلاق. (عبد الرازق، 2005، ص 59)
و- الحد الأدنى للدخل:
الحق في توفير حد أدنى من الدخل يمثل حد الكرامة الإنسانية للعاملين وأصحاب المعاشات وذوي الاحتياجات الخاصة.
المساواة والعدالة في الحقوق البيئية:
الحقوق البيئية بوجه عام يمكن تقسيمها إلى ثلاث دوائر متداخلة؛ تبدأ ببيئة المسكن الصحي، وتمتد إلى بيئة العمل، وتنتهي ببيئة عامة صحية، توفر الاستمتاع ببيئة مناسبة. ويمكن تناول ذلك بإيجاز من خلال الآتي:
أ- بيئة صحية للمسكن:
لكل مواطن الحق في سكن ملائم صحيًا وبيئيًا، تتوافر فيه الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وصرف صحي وتهوية جيدة، فضلًا عن الحماية من التقلبات الجوية، ومن الأخطار، ومن كل مصادر الضرر. (Jacgveline, 2010)
ب- بيئة صحية للعمل:
لكل مواطن الحق في بيئة عمل صحية، تتوافر فيها إجراءات الأمان والسلامة المهنية، وظروف عمل مناسبة من حيث الحرارة والنظافة والوقاية من مختلف الأخطار.
ج- بيئة عامة مناسبة:
يجب أن يكون التلوث – بجميع أشكاله – في حدود المسموح به، سواء كان تلوث الهواء أو الماء أو الضوضاء أو الغذاء أو غير ذلك، مع توفير مقومات جمال البيئة والحياة من تشجير وغذاء صحي ووسائل مواصلات آمنة ميسورة، إضافة إلى بيئة جيدة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. (Rosenbluth, 2009)
الحقوق والواجبات:
إن حصول الإنسان على حقوقه ليس نهاية المطاف، بل هو البداية، بمعنى ربط الحقوق بالواجبات. فالإنسان الذي حصل على حقه لابد أن يؤدي واجبه بكفاءة وهمّة، لأن هذا الواجب حق للمجتمع أن يحصل عليه، وإلا يُعاقب من أهمل أداء واجبه.
فعلى سبيل المثال: يرى الباحث أن التعليم الجامعي المجاني – بوجه خاص – حق للطلاب، وواجب هذا الطالب الاجتهاد والنجاح. فإذا لم يؤدِّ واجبه متعمدًا، وبدون عذر، يجب أن يتحمل تكاليف إعادة السنة. وهكذا بالنسبة لكل إنسان في عمله، سواء كان عاملًا أو طبيبًا أو غيرهما، فالحقوق مرتبطة بالواجبات، لأن المجتمع الذي يتكفل بحقوق مواطنيه من حقه أن يؤدي هؤلاء المواطنون واجبهم بكفاءة تجاه المجتمع. فهي عملية تبادلية وعقد اجتماعي بين المواطن والمجتمع، وإذا أخلَّ أحدهما بالعقد أُلغِي.
دور المؤسسات غير الرسمية في تمكين الإنسان من الحصول على حقوقه البيئية:
يرى بعض المفكرين أن الحكومة ليست وحدها المسؤولة عن تحقيق العدالة، أو على الأقل إذا قصّرت الحكومات في تحقيق العدالة، فإن دور المؤسسات أو المنظمات غير الرسمية يتعاظم في تمكين الأفراد من الحصول على حقوقهم البيئية.
وقد أشار روسو وهوبز إلى أهمية دور المؤسسات غير الرسمية من خلال عدة محاور، أهمها ما يلي:
أ- توعية المواطنين بحقوقهم للمطالبة بها.
ب- المساهمة في إرساء هياكل المؤسسات العادلة داخل الدولة، من خلال الجهود التطوعية للمؤسسات الخيرية التي تقدم خدمات تعليمية وصحية جيدة لمحدودي الدخل. (Craig, 2002)
ج- تدعيم سلطة النقابات في مواجهة سلطة المال، لتفعيل دورها في تمكين العاملين من الحصول على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، حيث تكون سلطة النقابات في مواجهة سلطة رأس المال وسيلة لإحداث التوازن المطلوب لتمكين الفئات الضعيفة من حقوقها.