في المولد والبدعة… كلمةُ العلم أمام غوغائيةِ الإنكار


بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو

( الأزهرى البابي الحلبي )

ليس في الدين ما يُترك للهوى، وليس في العلم ما يُسلّمُ للجهل.

وقد سمعتُ – كما سمع غيري – أصواتا ترتفع في أيام المولد النبوي، لا لتمجيد صاحب الذكرى، بل للطعن في الموالد، ولإلقاء تهمة “البدعة” على رؤوس الناس دون تروٍّ ولا تمييز.

وهذا، والله، من أعجب ما يُبتلى به الناس في دينهم، أن يُحرَّم عليهم ما هو من جوهر المحبة، وأن يُرمى بالتبديع من سلك مسلك التعظيم لرسول الإسلام.

البدعة… كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

إنّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم:

“من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء…”

حديثٌ صريحٌ لا يلتوي مع التأويل، ولا يرضخ للتقزيم.

فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يَقُل: “من سنّ في حياتي…”، بل قال: “في الإسلام”.
وقد علمنا أن الإسلام لم يُطوَ بوفاة النبي، ولا انقطع به الخير بعد رحيله، بل بقيت الأمة مأمورة بالاستزادة، والاقتباس من مشكاة النبوة، بما لا يخالف كتابا ولا سنة.

فإذا كانت السنّة في الإسلام لا تُحدّ بزمن، فمن أين جاء من حاصرها في زمن النبوة فقط؟
إن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والدليل هنا يفيض بالعموم.

العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب

وقد قال قائلهم: إن هذا الحديث ورد في قصة الفقراء الذين رقّ لهم قلب النبي، فحثّ الناس على الصدقة، فقال حديثه ذاك.

فنقول له – في هدوء العلم لا في صياح الجهل –:
“العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب”، كما قرر علماء الأصول.

فالحديث، وإن ورد في واقعة معينة، إلا أن ألفاظه عامة مطلقة، تشمل كل من سنّ سنة حسنة، لا تخالف أصلا من أصول الدين.

وهل نُذكِّر من يتشدّقون بلفظ “بدعة” أن الخلفاء الراشدين – الذين أمرنا رسول الله بالاقتداء بهم – قد أحدثوا أمورا لم تقع في زمن النبوة؟

فهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يجمع القرآن،
وسيدنا عمر رضي الله عنه يُوحِّد الناس على إمام في التراويح، ويقول: “نعمت البدعة هذه!”
وسيدنا عثمان رضي الله عنه يضيف الأذان الأول للجمعة،
وسيدنا علي رضي الله عنه يُقرُّ نقط المصحف وشكله،
وسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يبني المحاريب والمآذن.

فهل أنكر أحدٌ من السلف هذه الأعمال؟ كلا. بل كانت سنةً حسنة باقيةً في الأمة إلى اليوم.

نحن نرى أن الخلفاء الراشدين… قد سنوا بدعا حسنة
ولو كانت خاصة بالخلفاء الراشدين لقالوا لنا ( نحن من حقنا أن نسن سنة حسنة ، وانتم لا يحق لكم )
فهذا سيدنا عمر بعد أن جمع الناس على #التراويح ، لم يخش أن يقلده الناس فيما بعد، ولم يقل انا من الخلفاء الراشدين فيحق لى ما لا يحق لكم
بل قال : ونعمت البدعة
ولو كان يعلم أنه يحق له ولا يحق لمن بعده لنبه وقال ( لا تفعلوا مثلي ) لأنه حينئذ يكون قد أضل الأمة والعياذ بالله.

فهل البدعة حرام بإطلاق؟!

إن من يحرّم المولد، وهو يُقرّ بتقويم الصلاة (الرزنامة) التي لم تكن في زمن النبوة،
ومن يُبيح نقط المصحف وتشكيله، وهو محدث بعد الرسول،
ثم ينكر مجلسا يُذكر فيه الله ورسوله، ويُتلى فيه القرآن، وتُروى فيه شمائل النبي صلى الله عليه وسلم
فهذا ليس من أهل الإنصاف، بل من أهل التناقض، إن لم يكن من أهل التهوّر في الدين!

الإمام الشافعيّ رضي الله عنه… وميزان البدعة

ألم يقل الإمام الشافعي رضي الله عنه:

“المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة… فذلك البدعة الضلالة، وما أحدث من الخير ولا يخالف… فهذه محدثة غير مذمومة.”

فإنكار البدعة بإطلاق جهل،
والتمييز بين بدعة هدى وبدعة ضلالة هو عين الفقه، وأثر العلم.

المولد… تعظيم لا تأليه

ثم إن المولد ليس عبادة نُوجّهها لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا صلاة زائدة، ولا ركعة مخترعة،
بل هو مجلس محبة، وموسم شكر،
نُعظِّم فيه من عظّمه الله،
ونُجدد فيه الولاء للرسالة،
ونذكّر فيه الأمة بمنقذها ومربيها ونبيها.

نحن لا نعبد النبي، ولا الملَك، ولا القمر،
بل نعبد الله وحده،
وغاية التذلل عندنا لله وحده، نضع جباهنا في الأرض له، ونذكر رسوله بما يستحق من المحبة والمقام.

ثم إن المولد النبوي كما ذكرت سابقا : هو وسيلة لكل هذا وليس مقصدا ، فلا يطلب له دليل ، بل دليله دليل أصله، فلا يدخل في بحث البدعة اساسا
مثله مثل أي وسيلة لمقاصد الشريعة
ومن أراد التوسع فليرجع إليها

فكفّوا ألسنتكم عن التهوين من ذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم،
وانظروا إلى المولد بعين الشكر لا بعين الإنكار،

وتذكروا المقولة

كم من “بدعة” حسنة أحيت سننا مطوية،
وكم من “حماسٍ للتوحيد” صار قسوة على الحبيب صلى الله عليه وسلم.