محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس… نار لم تُطفأ وندبة في قلب التاريخ


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة


حين انطفأ وهج الحضارة الإسلامية في الأندلس، لم يكن السقوط مجرد حدث عسكري أو سياسي، بل كان جرحًا غائرًا في قلب الإنسانية، تواطأت فيه السيوف والصمت والتاريخ ذاته. ومع أفول شمس الممالك الإسلامية في غرناطة عام 1492، بدأت مرحلة حالكة السواد، هي أبشع ما عرفته أوروبا في تاريخها الديني والاجتماعي، إنها “محاكم التفتيش”.

لم تكن هذه المحاكم مجرد مجالس قضائية تبحث عن الحق، بل كانت أدوات قمع وتعذيب، ارتدت عباءة الدين لتفتك بكل ما هو إسلامي أو يهودي أو حتى مختلف. اجتمعت فيها الكنيسة مع التاج الإسباني في زواج دموي، هدفه الأكبر: “تنصير الجميع أو سحقهم”. وبهذا المنطق، تحوّل المسلمون في الأندلس من أصحاب علم وفن وعمارة إلى متهمين في قفص الاتهام، ينهشهم الجوع والرعب.

لم يشفع لهم علمهم ولا طبهم ولا ريادتهم في الترجمة والهندسة والفلك، ولم يرحمهم أنهم كانوا بناة الحضارة في قرطبة وإشبيلية وطليطلة. فبمجرد أن سقطت آخر الممالك الإسلامية، انهالت قرارات الطرد والملاحقة والتفتيش. كان أي مسلم يرفض التنصير، أو حتى يُشك في ممارسة شعائر الإسلام سرًا، يُزج به في المحاكم، حيث الإهانات والنيران والتعذيب الوحشي.

تخيل عائلة مسلمة، تُداهمها السلطات فجأة في منتصف الليل، تفتشها عن مصحف مخبأ أو أثر وضوء أو قطعة قماش توضأت بها امرأة ذات فجر… كل هذه أدلة “إدانة”. وحتى أولئك الذين أجبروا على التنصير، وأُطلق عليهم “الموريسكيون”، لم يسلموا من الشك والاتهام، فكانوا يُراقبون داخل منازلهم، وتُحصى أنفاسهم، ويُستجوب أطفالهم.

محاكم التفتيش كانت جريمة إنسانية ممنهجة باسم الإيمان، وبدل أن تكون الكنيسة ملاذًا للرحمة، تحوّلت إلى منصة لحرق الأحياء، وسلخ الجلود، واقتلاع الألسنة. لم تكتف المحاكم بالحكم بالموت، بل بالغت في التشهير والإذلال، فكان يُجر المتهم إلى الساحة العامة، يُربط على صليب خشبي، وتُوقد النار فيه على مرأى من الجميع. وربما الأفظع من القتل، هو أن يُجبَر المسلم على المشي في المواكب التنصيرية مهانًا، بزيّ ملطخ بالصور الدينية المسيئة، يصفق له الجمهور ساخرًا، كمن يشاهد عرضًا ترفيهيًا لا مأساة إنسانية.

لكن التاريخ لا يرحم الظالمين، وقد سُجلت هذه الحقبة في سجلات العار، شاهدة على جبروت السلطة حين تندس داخل العقيدة. لقد طُمست هوية الملايين، وتحولت الأندلس إلى مقبرة لحضارة كانت تتوهج نورًا، فاختنقت في ظلام العنصرية الدينية. ومع هذا، بقيت الذاكرة حيّة، تروى لنا اليوم تفاصيل الحقد باسم “الخلاص”، والعذاب باسم “التوبة”، والانتهاك باسم “الإيمان”.

ولأن الأندلس ليست مجرد أرض، بل كانت قصيدة مكتوبة بالحجر والماء والضوء، فإن مأساة محاكم التفتيش لم تكن فقط مأساة أمة، بل مأساة حضارة أُطفئت عنوة، وظل عبيرها يطارد الذاكرة الجمعية لكل عربي ومسلم وإنسان حر. فالأندلس ليست حنينًا للمكان فحسب، بل شوقٌ إلى العدالة المفقودة، إلى لحظة كان فيها التنوع ثراءً لا تهديدًا، والعلم جسرًا لا سيفًا، والإنسان إنسانًا، لا مشروعًا للصلب أو الحرق أو المسح من الوجود.

لا نذكر الأندلس لنحزن فقط، بل لنستعيد الوعي بما يمكن أن يحدث حين تسكت الضمائر وتُكسر الأقلام ويُكفَّر العقل. فمحاكم التفتيش لم تُغلق فعليًا، بل ما زالت تعود في صور أخرى، بمسميات جديدة، وشعارات خادعة، وجماجم مبتسمة أمام الكاميرات. أما الأندلس، فهي لا تزال حاضرة في القلب، شاهدة على المجد والخذلان، وعلى الحضارة حين تُغتال باسم الطهارة.

ومن بين كل الرماد، يبقى الحنين للأندلس نارًا لا تخبو، لأن ما خُطف بالسيف… لا يُنسى بالكتمان.

وإن كانت الكلمات تعجز أحيانًا عن التعبير، فإن التاريخ وحده يكتب بمداد الدموع والآلام. فدماء الأطفال الذين بكوا داخل أقبية التعذيب، وزفرات الأمهات وهن يُنتزعن من أبنائهن إلى محارق الحقد، وآهات الرجال الذين قضوا نحبهم على أبواب الكنائس أو قيد ألسنتهم المحروقة… كل هذا ليس خيالًا، بل حقيقة نقشتها الإنسانية على جبينها بخطٍ أحمر قانٍ.

ما أقسى أن يُجبر الإنسان على التخلي عن هويته ليبقى على قيد الحياة، وما أمرّ أن تموت فيك روحك وأنت تنظر في المرآة فلا ترى سوى ظلّ مشوّه لما كنت عليه. محاكم التفتيش لم تقتل الأجساد فقط، بل اغتالت الإيمان، مزّقت الذاكرة، وشوّهت التاريخ.

وها نحن نكتب بعد قرون، لا لنستدر الدمع فقط، بل لنوقظ الضمير، ونقول لكل من يحاول أن يعيد إنتاج محاكم التفتيش في زماننا هذا: لسنا نيامًا، ولن نُنسى، ولن تُمحى الأندلس من القلوب مهما طال الزمن.