حكمة الابتلاء في مسيرة العظماء

بقلم الدكتور : إسلام عوض
مدير تحرير جريدة الأهرام

 

الابتلاء أمر من الأمور التي لا يتمناه أحد، والكل يدعو الله ألا يبتليه، لا بالشر ولا بالخير؛ لأن الابتلاء في حد ذاته فتنة، يقول تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، ومعظم البشر ينفرون من الابتلاء ويجزعون منه، ولكن هناك بعض البشر لا ينفرون ولا يجزعون من الابتلاء، بل يتقبلونه بصدر رحب، وهم الرسل والأنبياء؛ الذين اصطفاهم الله وطهرهم وصنعهم على عينه.

ويُقدم لنا القرآن الكريم، في آياته البينات، دروسًا عميقة في فهم سنن الله في خلقه وتدبيره لأمورهم، ومن هذه الدروس البليغة، على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد على لسان الحق سبحانه وتعالى لسيدنا موسى الكليم عليه السلام في سورة طه، حين قال: “وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا” (الآية 40).

وللحق أقول كنت أظن قديمًا أن المقصود من قوله تعالى: “وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا” هو القوة والعنفوان، ولكن بعد الاطلاع والمراجعة، وجدت أن المقصود هو وابتليناك ابتلاءً شديدًا، ووجدت أنها تحمل أيضًا في طياتها بحرًا من المعاني والدلالات حول طبيعة الابتلاء وحكمته في صقل النفوس وتهيئتها للمهام العظمى.

ووجدت أن كلمة “الفتنة” في اللغة العربية تحمل معنى الاختبار والامتحان الشديد، وهي تُستعار من عملية إدخال الذهب في النار لتخليصه من الشوائب وإظهار نقائه، وكلمة “فتونًا” لا تشير إلى مجرد امتحان عابر، بل تؤكد تكرار هذه الاختبارات وتنوعها وشدتها على مدى حياة سيدنا موسى عليه السلام، ويؤكد هذا سلسلة الابتلاءات المتتالية، التي واجهته فصقلت شخصيته، وقوّت عزيمته، وأعدته لدوره الرسالي العظيم، حتى وصل إلى درجة أولي العزم من الرسل.

وإذا تأملنا مسيرة سيدنا موسى عليه السلام، نجدها مليئة بمحطات الفتنة ومنها:

🔴 فتنة الرضاعة والنشأة في بيت فرعون: أُلقي رضيعًا في اليم، ليُربى في كنف فرعون، أكبر أعداء بني إسرائيل، ومن ثم، عاد إلى حضن أمه ليرضع، في تدبير إلهي عجيب حفظ حياته وأعاده إلى أمه وأبيه وإخوته.

🔴 فتنة القتل غير المتعمد والهروب: استغاث رجل من بني إسرائيل بموسى من ظلم رجل مصري، فوكزه موسى بقبضة يده؛ مما أدى إلى مقتل الرجل المصري، ثم هروبه من مصر خوفًا من بطش فرعون وجنوده، في غربة قاسية ومجهولة.

فتنة الغربة والعمل في مدين: 10 سنوات قضاها راعيًا للغنم، بعيدًا عن أهله ووطنه، وهي فترة تعلم فيها الصبر والتحمل والشجاعة والاعتماد على الذات.

🔴 فتنة التكليف بالرسالة: عندما ضل الطريق في الصحراء ورأى نارًا لم تكن نارًا عادية، بل كانت بداية الوحي الإلهي وتكليفه بأعظم مهمة.

🔴 فتنة مواجهة فرعون الطاغية: ذروة الابتلاءات، حيث وقف موسى أعزل تقريبًا أمام فرعون وجبروته، داعيًا إلى الحق ومواجهًا للباطل.

كل محطة من هذه المحطات لم تكن عقابًا، بل كانت مراحل ضرورية للصقل والتربية والتأهيل؛ فالله سبحانه وتعالى، بعلمه وحكمته، كان يُعد موسى عليه السلام ليكون من أولي العزم من الرسل، قادرًا على تحمل أعباء الرسالة، والصبر على قومه، ومواجهة التحديات الهائلة.

إن فهمنا لمعنى “وفتناك فتونًا” يفتح لنا نافذة على حكمة الابتلاء في حياة المؤمنين عمومًا؛ فما نمر به من صعوبات وتحديات، قد يكون في حقيقته اختبارًا إلهيًا ليزيدنا قوة، ويصقل إيماننا، ويُعدنا لمرحلة مقبلة أكثر عظمًا؛ فالابتلاء ليس دائمًا شراً محضًا، بل هو غالبًا فرصة للنمو والتطور والاقتراب من الله، لنتعلم الصبر، ونُظهر التسليم، ونُدرك أن أقدار الله كلها خير، حتى وإن بدت لنا في ظاهرها شرًا.

حكمة الابتلاء في أرض الرباط: غزة وفلسطين
وعندما نسقط هذه الحكمة الإلهية على واقعنا المعاصر، لا يمكننا إغفال ما تمر به أرض فلسطين الطاهرة، وغزة الصامدة على وجه الخصوص، فإن ما يعيشه أهلنا هناك من حصار، وظلم، وتضحيات جسام، هو بلا شك فتنة عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إنه ابتلاء متواصل، واختبار قاسٍ للصبر والثبات، يفوق قدرة البشر العاديين على التحمل، وكأن الله قد اصطفى أهل غزة وفلسطين اصطفاءً شديدًا حتى ينالوا درجة الشهادة في سبيل الله.

ولكن، من منظور الحكمة الربانية، في هذا الابتلاء وإن كان شديدًا، فهو ليس عبثًا؛ إنه يُصقل أرواحهم، ويثبت قلوبهم، ويُعلي من شأنهم عند ربهم، ويُظهر للعالم أجمع صمودهم الأسطوري وبسالتهم التي لا تلين.

فكما صقلت الفتن موسى ليواجه فرعون، فإن هذه الابتلاءات تُعد أهل فلسطين لدورهم التاريخي في حفظ المقدسات، وتُظهر للعالم حقيقة قضيتهم وعدالة مطالبهم؛ إنها تُبرز عظمة صبرهم وإيمانهم، وتُعلّم الأجيال القادمة معنى الثبات على الحق مهما عظمت التحديات.

لعل هذه الفتن هي النار التي تُخرج المعدن النقي الخالي من أي شوائب لأهل غزة وفلسطين، وتُظهر للعالم جوهر إيمان وصبر وثبات هذا الشعب الأبيّ، الذي لن ينكسر مهما اشتدت عليه المحن. وصدق الله إذ يقول: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت: 2). فكل فتنة هي درجة في سلم العزة والكرامة، وإعداد لنصر الله الذي وعد به عباده الصابرين.

وقد بدأت ثمار هذا الصبر والثبات تؤتي أكلها، لتُجبر العالم على الاعتراف بحقيقة لا يمكن إنكارها؛ فلقد أسفر صمود أهل فلسطين عن اعتراف دولي متزايد بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة غير المحتلة. وتشهد الأيام الأخيرة تحولات تاريخية في المواقف العالمية، حيث أعلنت دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا نيتها أو شروعها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية رسميًا، لتنضم بذلك إلى ما يقرب من 150 دولة من 195 دولة حول العالم، أي معظم دول المجتمع الدولي، التي أقرت بهذا الحق الأصيل.

هذا الاعتراف المتنامي ليس مجرد موقف سياسي، بل هو شهادة عالمية على عدالة القضية الفلسطينية، ويُعد انتصارًا لصبر شعب آمن بعدالة قضيته وصمد في وجه أقسى أنواع الفتن، وهو دليل كذلك على أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الله لا يُضيع أجر الصابرين، وأنه سبحانه وتعالى ينصر من ينصره.