ثانياً: البعد الاقتصادي للعدالة البيئية
31 يوليو، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الدكتور: حاتم عبدالمنعم
أستاذ علم الاجتماع البيئى كلیة البییة جامعة عین شمس
أدت سياسات العولمة إلى تركيز الثروة في أيدي نسبة محدودة من المواطنين، وزيادة المعاناة للقطاع الأكبر من المواطنين، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، ذهب 90% من زيادة الدخل القومي إلى الأغنياء وهم يمثلون 1% فقط من السكان، وعلى سبيل المثال كان الدخل الأقصى لمدير كبرى الشركات الأمريكية نحو أربعين ضعف العامل في مثل هذه الشركة وذلك عام 1980، ولكن ارتفعت هذه النسبة من أربعين ضعفًا إلى 85 ضعفًا عام 1990، وفي نهاية التسعينيات ارتفعت هذه النسبة أكثر من ذلك، وهذا ما يتكرر في معظم دول العالم (بريان، باري، 2011، ص112). ومثلاً هناك 96 مليارديرًا في روسيا يملكون نحو %19 من إجمالي الناتج المحلي في روسيا، وفي أمريكا 42 مليارديرًا تبلغ ثروتهم نحو %؟ من إجمالي الدخل القومي (تقرير الأمم المتحدة، 2012، ص21)، وهناك 10% من الألمان يملكون أكثر من %66 من ثروة الألمان (أحمد النجار، 2011، ص60). هذا هو حال البلاد المتقدمة والتي ترعى بدرجة أو بأخرى العدالة، وهناك وعي كبير لدى المواطنين بحقوقهم ونُظُم عريقة في الديمقراطية، فما هو الحال في البلاد النامية والمتخلفة؟ الحقائق مظلمة وقاتمة وصادمة وواقع نعيشه.
ولكل ما سبق، هناك أساليب أو أدوات جلية واضحة تساهم في تحقيق العدالة، خاصة في الإسلام، ومن هذه الأدوات ما يلي:
1- وضع حد أدنى للدخل (حد الكرامة الإنسانية):
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [سورة الإسراء: الآية 70].
الله سبحانه وتعالى كرّم الإنسان، كرّم كل إنسان خلق على هذه الأرض، وفضّل هذا الإنسان على كثير من خلقه، والأهم أن المولى الكريم رزق هذا الإنسان من الطيبات.
ويلاحظ أن حديث المولى الكريم – لكل إنسان وعلى سبيل المساواة بدون تمييز، وإذا كان الله جل شأنه كرّم كل إنسان ورزقه من الطيبات، فمن أين يأتي الفقر؟ ومن الذي يُهين أخاه الإنسان؟ ومن الذي يأخذ رزق أخيه؟ للأسف هم بعض الأغنياء. ومن هنا فلا يجوز للإنسانية أن يُهان إنسان، أو يُحرم من رزقه، ومن هنا كان مبدأ وضع حد أدنى للدخل، ويُسمى حد الكرامة الإنسانية أو حد الكفاف، بمعنى الدخل الذي يوفي بالاحتياجات الأساسية للفرد الأقل علماً ومهارة، يجب أن نهيئ لهم دخلًا يكفيه ويحفظ كرامته من السؤال، أو التسول، أو طلب رشوة، أو غيره من سلوك سلبي.
والحقيقة أن الموارد الطبيعية الموجودة في الكون تكفي احتياجات كل البشر، ولكنها لا تكفي أطماع كل البشر (الغزالي، 2005، ص183)، بينما يؤكد آخرون أن الإسلام لا يدعو للكفاف وحده، إنما يدعو للمتاع بالحياة، والمتاع فوق الكفاف ليتمتع بالحياة بدون إسراف، ليتحرر هذا الإنسان من الحاجة، لينطلق لبناء المجتمع ويُخرج كل مهاراته وكفاءاته. ويذهب زهير الأعرجي إلى أكثر من ذلك، وهي مسؤولية الدولة عن توفير الحج، وهو أساسًا فرض لمن يستطيع (زهير الأعرجي، 1415هـ، ص132).
وفي هذا الشأن، يقول عمر بن الخطاب – أمير المؤمنين – رضي الله عنه: “إذا أعطيت فأغنِ” (القرضاوي، 1986، ص10).
ويقول الرسول ﷺ: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} (رواه أبو داود والترمذي).
لأنه إذا بات فرد واحد جائعًا، فالأمة كلها مسؤولة عنه. وفي الحديث الشريف: {أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعًا، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى} (المسند – الإمام أحمد بن حنبل، نشر في أحمد شاكر، حديث رقم 4880).
وللرسول ﷺ حديث آخر: {ليس منا من بات شبعانًا وجاره جائع وهو يعلم}.
والهدف من تطبيق الحد الأدنى أن يستقيم الإنسان ويؤدي عمله بكفاءة، ولا يلجأ لطلب رشوة أو خلافه، وهذا الحد الأدنى يُطبق أيضًا على المرضى والعجزة والأرامل وأي إنسان غير قادر على الكسب، ويجب أن يتم رفعه بمقدار التضخم.
والهدف النهائي من ذلك كله هو تكريم الإنسان لكي يُمكنه أن يساهم بقوة وفاعلية في خدمة وتنمية الأمة… فكم من الفقراء خرج منهم علماء وخبراء أفادوا الوطن والدولة بعدما توافرت لهم فرصة حقيقية لإخراج مواهبهم وقدراتهم
2- وضع حد أقصى للدخل:
الحد الأقصى للدخل يُطبق فقط على الجهات الحكومية، وليس القطاع الخاص، ولكن الحد الأدنى يُطبق على جميع الأعمال الحكومية والخاصة، والحد الأقصى يرتبط عادة بالحد الأدنى، حيث يتراوح ما بين عشرة أضعاف إلى عشرين ضعفًا في معظم دول العالم، ونادرًا ما يصل إلى ثلاثين ضعفًا، وكان في مصر 20 ضعفًا حتى نهاية الستينيات، حيث تم إلغاء الحد الأقصى. ونجد مثلاً أن راتب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية 400 ألف دولار سنويًا، أي أقل من 34 ألف دولار شهريًا، وهي دولة الرفاهية حيث انخفاض الأسعار وتوافر الخدمات بشكل متميز، وفي روسيا راتب رئيس الوزراء 140 ألف دولار سنويًا، أي أقل من 12 ألف دولار شهريًا (خليفة أدهم، 2012، ص18).
ويلاحظ أن الحد الأقصى للدخل بكافة صوره، وليس هناك أية إضافات في شكل بدلات أو غيرها، كما أنه ليس هناك أية استثناءات، وتطبيقه على كل قطاعات الدولة وليس على بعضها.
3- القروض والضرائب التصاعدية:
بداية، القروض وسيلة أو أداة اقتصادية قد يُحسن استخدامها وتكون عامل رفع وقوة للتنمية، وقد يُساء استخدامها وتصبح عاملًا حاسمًا في التبعية والتخلف. والعدالة البيئية تقتضي أن تكون القروض لمشروعات إنتاجية تستفيد منها الأجيال القادمة، لأنها هي التي سوف تقوم بتسديد أصل هذه القروض بالإضافة إلى فوائدها.
وهنا تكون القروض أداة إيجابية تدعم التنمية، والعكس صحيح، بمعنى لا يجوز أخلاقيًا ولا اقتصاديًا أن نقترض لنشتري طعامًا أو شرابًا أو لسد عجز الميزانية، لأن معنى هذا أننا نأكل أو نحل مشاكلنا على حساب أولادنا المطالبين بتسديد هذه القروض. وإذا كانت مبادئ الأخلاق والاقتصاد والعدالة ترفض القروض لسد عجز الميزانية أو الحاجة لاستيراد غذاء أو أمن وخلافه، فمن أين تأتي الدولة بهذا المال؟ الإجابة يؤكد عليها الدين بالإجماع تقريبًا في حدود قراءتي: من أغنياء الدولة، لأن كل مجتمع مسؤول عن نفسه، ولا يجب أن يُرحّل مشاكله لأبنائه وأحفاده أو يهرب من مسؤوليته، وأغنياء أي مجتمع هم عادة المستفيدون، وعليهم أن يتحملوا نصيبهم في الغُرم والمكسب، وليس في حالة المكسب فقط.
ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –: {إن الله قد فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُنع به غني} (خالد محمد خالد، 1974، ص107).
ويقول الشيخ الغزالي إن الدولة مسؤولة عن كل فرد واحتياجات الأمن، ولا يجوز للدولة أن تتراجع عن تحقيق ذلك طالما بقي لكل فرد من أفراد الشعب قوته الضروري (الغزالي، 2005، ص183).
ويؤكد آخرون على أن من حق الدولة أن تفرض ضرائب أخرى إلى جانب الزكاة، مثل مبدأ الضريبة المتفاوتة حسب المقدرة. ففي عام المجاعة أوقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – جمع الزكاة، وعندما عاد الرخاء تقاضى من القادرين حصتين وأعفى غيرهم. بل يُضيف بعض العلماء أن للحاكم أن يأخذ ما يشاء من أصل رأس المال وليس الأرباح فقط لمصلحة الوطن. كما طالب الشيخ الغزالي بفرض ضريبة تصاعدية على التركات (الغزالي، 2005، ص182). وهذه الآراء تعتمد على أن المال هو مال الله، والإنسان مستخلف فيه في حدود صالح المجتمع، وهو ما تم إثباته من قبل.
والضرائب التصاعدية موجودة في معظم دول العالم، سواء الاشتراكية أو الرأسمالية، حيث تصل إلى 60% في كندا و75% في فرنسا وفي دول رأسمالية أخرى، لأنها تحقق العدالة وتمنع الاحتكار بشكل تلقائي، لأنه مع ارتفاع الضرائب، ليس من المصلحة التوسع في هذا المجال، والأفضل البدء في نشاط آخر. وهي مطبقة في أكبر الدول بداية من أمريكا والصين إلى ماليزيا وغيرهم، ولا تُطبق في حالة الخسارة أو محدودية الربح.
4- ضرائب على الأرباح التجارية والاستهلاك الترفي والتركات:
إن الأرباح الناتجة عن التعامل في البورصة تصل إلى مليارات في بعض الأحيان، ودون جهد إنتاجي، لذلك يُفرض عليها ضرائب في معظم دول العالم، على الأقل للحد من المضاربات وضمان جدية التعامل في البورصة، وتكون الضريبة تصاعدية مع الأرباح، وبالطبع لا تُطبق على الخسائر.
وكذلك تُفرض ضرائب لحماية الإنتاج المحلي، وهنا يُعتبر المنتج الأجنبي ترفًا، خاصة في منتجات الطعام والشراب وخلافه، مثل السجائر أو الحلوى الأجنبية وغيرها من صور الإنتاج الترفي، مثل السيارات الفارهة والأجهزة غالية الثمن.
ويُضيف الشيخ الغزالي ضريبة على التركات الكبيرة، والتي تتعدى مبلغًا معينًا، كما يُطالب الشيخ بفرض ضرائب على رؤوس الأموال الكبرى مع تحديد حد أقصى لتملك الأراضي الزراعية للمصريين، لتكوين طبقة من صغار الملاك.
5- التنمية المستدامة:
إن التنمية المستدامة هي الضمانة الحقيقية لتفعيل وتحقيق العدالة البيئية، ورغم أن التنمية المستدامة موضوع مستقل وكبير ويحتاج إلى مؤلف منفصل، إلا أننا سنحاول إيجاز فكرة التنمية المستدامة وعلاقتها بالعدالة البيئية فيما يلي:
مفهوم التنمية المستدامة وأهدافها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل} (رواه مسلم والبخاري).
ويرى المؤلف أن هذا الحديث يعكس فكر وفلسفة التنمية المستدامة، ببساطة تعني: خير التنمية أدومها وإن قلت، على هذا القياس.
والتنمية المستدامة هي فكر وفلسفة حياة جديدة للبشرية كافة، وتهدف إلى التوازن بين احتياجات الإنسان وإمكانيات البيئة الطبيعية والموارد المتاحة.
والتنمية المستدامة ببساطة هي التي تُشبع الاحتياجات الضرورية للأجيال الحالية دون الإخلال بالاحتياجات الضرورية للأجيال القادمة، ولذلك فهي تسعى إلى إشباع الحاجات الأساسية للفقراء والحد من إسراف الأغنياء والحفاظ على الموارد الطبيعية حماية لحقوق الأجيال الحالية والقادمة (Palme، 2007).
وبالتالي، فإن التنمية المستدامة ضمانة حقيقية لتحقيق العدالة البيئية، وأن المفهوم التقليدي للتنمية، والذي يعتمد على تعظيم الربح المادي، هو الذي يُخل ليس بالعدالة الاجتماعية فقط، بل بالعدالة البيئية بمفهومها الشامل. ولذلك، فليس هناك عدالة بيئية بدون تنمية مستدامة حقيقية.
وفي ختام هذه الجزئية، نتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
{إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له} (رواه مسلم، رقم 1630).
وهذه العوامل الثلاث تعكس فكرة التنمية المستدامة، لأن الصدقة الجارية والعمل النافع والولد الصالح تعني الاستدامة والتواصل – صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام. كما أن نظام الوقف تأكيد آخر على فكرة الاستدامة.
6- انخفاض قيمة العملة والتضخم يُعيد توزيع الدخل لصالح الأغنياء:
إن انخفاض قيمة العملة الوطنية بنسبة معينة مثل 20% يعني ببساطة التضخم وارتفاع الأسعار بنسبة 20% لكل شيء، وعادة التاجر وصاحب المشروعات والمال تزيد قيمة ثروته، ويعاني محدودو الدخل والفقراء.
وبالتالي، فإن ارتفاع معدل التضخم يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل لصالح الأغنياء والملاك، وبالذات الفئات الرأسمالية، على حساب أصحاب الدخول الثابتة وشبه الثابتة من أصحاب الأجور والمعاشات، حيث تُخفض دخولهم الحقيقية، والتي نعني بها القوة الشرائية للنقود (أحمد النجار، 2010، ص61).