قصة الراهب بحيرا


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

خرج أبو طالب في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل رق لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداَ، وذلك لمَّا تمَّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من العُمُرِ اثنَتا عَشْرةَ سنةً، ولمَّا نزلَ الرَّكبُ (بُصرَى) مرّوا على راهِبٍ هناك يُقال له (بَحيرَا)، وكان عليمًا بالإنجيلِ، خبيرًا بالنَّصرانيَّةِ، التي بشرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[الصف: 6]، وأبصرَ الراهب بَحيرَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَعَلَ يتأمَّلُه ويُكلِّمُه، ثم الْتَفَتَ إلى أبي طالبٍ فقال له: ما هذا الغُلامُ مِنكَ؟ فقال: ابني (وكان أبو طالِبٍ يَدعوه بابنِه؛ لشدَّةِ محبَّتِه له وشَفَقَتِه عليه)، فقال له بَحيرَا: ما هو بِابنِك، وما ينبغي أن يكونَ أبو هذا الغُلامِ حيًّا. فقال: هو ابنُ أخي، قال: فما فَعَل أبوه؟ قال: مات وأُمُّه حُبلَى به، قال بَحيرَا: صدقتَ، فارجِعْ به إلى بلدِه واحذَرْ عليه يهودَ؛ فوالله لئنْ رأوْهُ هنا لَيَبْغُنَّهُ شرًّا؛ فإنَّه كائنٌ لابنِ أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ.

وعند الترمذي فقال له أشياخٌ من قُريشٍ: ما عِلمُك؟
قال: إنَّكم حين أشرفتُم من العقبةِ لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يَسجُدانِ إلا لنبيٍّ، وإنِّي أعرِفُه بخاتَمِ النبوَّةِ أسفلَ من غُضروفِ كَتِفِه مثلِ التُّفَّاحة،ِ حيث نظر بحيرا إلى ظهر رسول الله صلى الله، فوجد خاتم النبوة بين كتفيه فاتجه إلى عمه أبي طالب وقال له: ابن أخيك هذا له شأن عظيم، فاحذر عليه من اليهود وأسرع به إلى بلاده، فأسرَع به أبو طالبٍ عائدًا إلى مكَّةَ.

والسؤال هنا لماذا يحاول اليهود قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل مبعثه، رغم أنهم كانوا يبشرون به، ويستفتحون به على العرب ويقولون: إن نبيا مبعوثاً الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد ‌وإرم، فلما بعث الله رسوله اتبعه العرب وكفروا به، ففيهما نزل قول الله عز وجل: {وَكَانُوامِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ…}[البقرة: 89].

والجواب أن اليهود كانت تنتظر نبي آخر الزمان أن يخرج من بني إسحاق، فلما خرج من بني إسماعيل حسدوا العرب وأنكروا نبوته وأرادو قتله بغضا وحسدا من عند أنفسهم، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة: 109]، ولم يقتصر هذا التعصب اليهودي على أصول الإيمان فحسب بل تعدى للأحكام الفرعية، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[آل عمران: 75] }[آل عمران: 75]، حيث كانوا يحرمون الربا فيما بينهم، ويستحلونه في التعامل مع العرب الأميين، وهذه نزعة عنصرية ترفضها وتأباها الشريعة الإسلامية.

ولما وقع نزاع طارئ بين مهاجري وأنصاري، وقال الأنصار ياللأنصار، وقال المهاجرون ياللمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة، فالعصبية المذمومة تجعل الأسماء الكريمة كـ (الأنصار ـ والمهاجرين) أسماء قبيحة ومنتنة إذا قيلت على سبيل مدح النفس والانتقاص من شأن الآخرين.

وقد جاء الإسلام ليحارب العصبية بكل أشكالها ودمغ مبدأها الذي يقول: (أنا وابن أخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)، وإنما جاء الإسلام ليحث على اتباع الحق والسير في فلكه؛ لأنه الحق؛ بغض النظر عن قائله، فالحق أحق أن يتبع.