دعوه يبقى مع الصحبة التي اختارها.. شهداء “الثغرة” 1973…. الذين لم تأكلهم الأرض
13 يوليو، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
حين تتحدث القلوب قبل الألسنة، وتبوح الأرواح بما لم تقله الكلمات، نكون أمام قصة مختلفة.. قصة لا تُروى لتُنسى، بل لتُخلّد في وجدان كل مصري، ولتبقى عنواناً للفداء والبطولة والإيمان. إنها قصة شهيد، لكنها ليست كباقي القصص، ففيها من النور ما يبدد ظلمات اليأس، وفيها من المعاني ما يجعلنا نعيد فهم الحياة والموت معاً.
في الأيام الأخيرة من حرب أكتوبر المجيدة، حاولت إسرائيل أن تحوّل مجرى المعركة لصالحها بافتعال ما سُمِّي بـ”الثغرة”، محاولةً الالتفاف على القوات المصرية والدخول من منطقة الدفرسوار، بين الجيشين الثاني والثالث. كانت خطة خبيثة هدفها خنق الجيش الثالث وتهديد العمق المصري، لكن ما لم تدركه إسرائيل وقتها أن الجنود المصريين ليسوا مجرد أرقام على خرائط العمليات، بل هم رجال عقدوا العزم على النصر أو الشهادة. قاوموا ببسالة، وحموا الأرض بأجسادهم، وواجهوا الدبابات والإنزال الجوي بصدرٍ مفتوح لا يعرف الخوف ولا التراجع. سقط منهم شهداء، لكنهم كانوا وقود النصر، وهم من كسروا وهم القوة الإسرائيلية.
من بين هؤلاء الأبطال، كان العريف أبرار جوي محمد إبراهيم محمد حمادة، أحد رجال الصاعقة الذين واجهوا لحظات الثغرة الأخيرة بشجاعة نادرة، فارتقى شهيداً في 24 أكتوبر 1973. دُفن في مقابر التل الكبير مع رفاقه الشهداء، لكنه ظل في عداد المفقودين حتى تعرف عليه زملاؤه بعد ستة أشهر. في عام 1977، قررت القوات المسلحة نقل جثامين الشهداء من التل الكبير إلى مقابر جديدة شُيدت عند مدخل الإسماعيلية، وبدأت في التواصل مع الأسر. من بينها كانت أسرة الشهيد، التي ما إن علمت بنقل الجثمان حتى بدأت الأم ترى رؤيا متكررة، ثلاث ليالٍ متتالية، ترى فيها ابنها الشهيد يقول لها: “يا أمي، سبيني مع الصحبة اللي أنا معاها.” رسالة واضحة، متكررة، صريحة، تنبعث من عالم الشهادة والنور.
قصّت الأم الرؤيا على الأب، الذي بكى وقال: “خلاص، سيبيه مع الصحبة اللي هو عايزها.” لكنه أصر على الذهاب إلى الإسماعيلية مع ابنه الوحيد ليتأكد بنفسه مما سيجري. وهناك حدث ما لا يمكن وصفه إلا بأنه معجزة تُروى. العشرات من أسر الشهداء أكدوا أنهم رأوا الرؤيا نفسها، بنفس الكلمات، وبنفس الإلحاح. وحين فُتحت المقابر، كانت الصدمة المهيبة: الشهداء كما هم، لم تأكلهم الأرض، لم يتحللوا، بل كانت أجسادهم ندية، وروائحهم طيبة تفوح كالمسك. رأى الأب ابنه الشهيد بكامل زيه العسكري، بالأفارول والبيادة، كأنه يهم بالخروج في مهمة جديدة، لا تبدو عليه أي علامات موت أو فناء. النساء صرخت، إحداهن قالت وهي تبكي: “فوقوهم.. فوقوهم دول صاحيين.” ومن بين الحضور، أب صعيدي جاء لينقل ابنه إلى مقابر العائلة، وما إن رأى وجه ابنه المشرق وساعته التي ما زالت تعمل في معصمه حتى شهق باكياً وقال: “خليك مع الصحبة اللي أنت عايزها يا حبيبي.” وتراجع عن قراره، وأعاد ابنه إلى رفاقه الذين اختارهم الله له.
هذه القصة، التي تفيض نوراً وعبرة، لا تقتصر على مشهد الوفاء بالصحبة، بل هي شهادة حية على كرامة الشهداء وصدق وعد الله لهم بالحياة عنده، وإن أجسادهم لا تُمس بسوء، ولا تُهدر تحت التراب، بل تبقى طاهرة، معصومة، محفوظة بأمر الله. هي قصة وطن ووفاء، دماء سالت على أرضٍ طاهرة لتمنحنا ما نحن فيه الآن من أمن واستقرار وسكينة. الشهداء الذين ارتقوا في معركة الثغرة، وغيرهم من أبطال أكتوبر، هم من زرعوا بأرواحهم السلام الذي نعيشه اليوم، هم من كتبوا بأجسادهم سورة من سُوَر المجد المصري الخالص. لم يكونوا يبحثون عن ألقاب أو أوسمة، بل عن النصر أو الشهادة، وكان لهم ما أرادوا، فارتقوا إلى العُلا، وبقيت ذكراهم نوراً يهدي الطريق.
ما نحن فيه اليوم، من طمأنينة في الشوارع، وأمن في البيوت، ووطن يعلو بين الأمم، لم يأتِ من فراغ، بل جاء بعد أن سالت دماء الشهداء على الرمال، وصعدت أرواحهم إلى السماء، راضية مرضية. لولاهم، ما كان لمصر أن تنهض من كبوتها، ولا أن ترفع رأسها عالية بعد الانكسار. فلنذكرهم دائماً، في صلاتنا وأحاديثنا، في كتب التاريخ وفي قلوب أطفالنا، لأن من لا يكرم شهداءه لا يستحق حاضرَه، ولا يملك مستقبله.
اللهم ارحم شهداء مصر، واسكنهم فسيح جناتك، وبارك في هذا الوطن، وامنحه من عندك حفظاً وطمأنينة، كما حفظه هؤلاء بجراحهم وأرواحهم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.