للسادة الخطباء : مبحث بعنوان ( لِلَّـه دَرُّك يا ابنَ عبـاس -نموذج نبوي في التربية) للشيخ رضا الصعيدى
10 يوليو، 2025
خطب منبرية

موضوع : لِلَّــــــه دَرُّك يا ابـــــنَ عبـــــاس ( الشيخ /رضا )
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أولاده وأحفاده بالرحمة والحنان والقدوة الحسنة، مع الاهتمام بتعليمهم وتأديبهم وتوجيههم نحو الخير وغرس الأمل والقيم والأخلاق ، وها هو ابن عباس نموذجا نبويا فريدا في التربية ..
تعريف بسيدنا عبد الله بن عباس:
هو سيدنا عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا العباس ، ولد قبْلَ عَامِ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِيْنَ… وكان من جملة الغلمان الذين رباهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, كزيد واسامة وأنس وعمر بن أبي سلمة, وغيرهم من الغلمان الذين تربوا وحلقوا حول مأدبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهلون من نهره الجار, ومن معينه الذي لا ينضب صلى الله عليه واله وسلم.
صَحِبَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْواً مِنْ ثَلَاثينَ شَهْراً, وَكَانَ وَسِيماً جَمِيْلاً، مَدِيدَ القَامَةِ، مَهِيباً, كَامِلَ العَقْلِ, ذَكِيَّ النَّفْسِ, مِنْ رِجَالِ الكَمَالِ «سير أعلام النبلاء – ط الحديث» (٤/ 380).
النموذج النبوي الشريف في التربية :
أولا : التربية بالدعاء :
فلقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سببًا في فتح أبواب العلم، والفَهم، والحكمة، حتى صار نموذجًا للعلماء العاملين، وشاهدًا حيًّا على بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يؤتي الله العلم لمن يشاء.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الْخَلاَءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا. قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». [البخاري].
وعنه قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ». وفي لفظ: علمه الحكمة. [البخاري]، وأخرجها البزار بلفظ: اللهم علمه تأويل القرآن، وعند أحمد والترمذي: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»،وعند أحمد: «اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل». وفي رواية: (دَعَا لَهُ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ فَهْمًا وَعِلْمًا) (المستدرك للحاكم). وفي رواية: (اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) (مسند أحمد).
من القائل لله درك يا بن عباس وما معناها ؟
(1)القائل هو أمير المؤمنين عمر بن الْخطاب : «أخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد أَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ هَذِه الْآيَة عِنْد عمر بن الْخطاب فَقَالَ: اقتتل الرّجلَانِ فَقَالَ لَهُ عمر: مَاذَا قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أرى هَهُنَا من إِذا أَمر بتقوى الله أَخَذته الْعِزَّة بالإِثم وَأرى من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضاة الله يقوم هَذَا فيأمر هَذَا بتقوى الله فَإِذا لم يقبل مِنْهُ وأخذته الْعِزَّة بالإثم قَالَ لهَذَا: وَأَنا أشري نَفسِي فقاتله فاققتل الرّجلَانِ فَقَالَ عمر: لله دَرك يَا ابْن عَبَّاس» «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» (١/ 578)
(2) معنى “لِلَّــــــه دَرُّك”:
معنى “لله درك”: لِله دَرُّكَ” هي كلمة مدح وإعجاب، وتعني حرفيًا “للهِ دَرُّكَ” أي “للهِ مَعدِنُكَ أو حَصيلَتُكَ”، بمعنى أن صفاتك الحميدة ومكارم أخلاقك هي من سَعَة فضل الله وعطائه.
وتُقال للإشادة بشخصٍ ما، كأن يُقال: “ما أروعك! ما أبرعك! ما أحسن صنيعك!”، مع توجيه الثناء لله تعالى. باعتباره مصدر هذه الفضائل.
(أ) “لله دَرُّكَ” من حيث اللغة:- كلمة “دَرّ تعني المعدن أو المَنجم (مصدر الشيء الأصلي) فكأنها تشير إلى أن الممدوح نفسه كنز من الفضائل.جاء في “لسان العرب” لابن منظور: “الدَّرُّ: المَعدِنُ، يُقال: لِله دَرُّكَ، أي لِله ما أَنت مِن كَرَمٍ وحُسنٍ”.
(ب) “لله دَرُّكَ” من حيث الاستخدام في السنة والأدب:-لم ترد في القرآن الكريم، لكنها شائعة في اللغة العربية الفصيحة وكلام العرب.وردت في الشعر القديم، مثل قول الشاعر:لِله دَرُّ الغَانِياتِ المُدَّهِ سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي(حيث يُمدحُ جمالُ النساءِ وخُلُقُهنَّ).
أثر هذه الدعوات:
1- فهم الدين بمعنى عام :
أما قوله «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ، فالفقه هو الفهم، والفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل.
2-القرءان والسنة بمعنى خاص:
وعند النسائي والترمذي: قال: «دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتى الحكمةَ مرتين». ، والحكمة هي : السنة، وقيل: الإصابة في القول.
وفي رواية: «اللهمّ علّمْهُ الحكمةَ وتأويلَ الكتابِ». [فتح الباري].
وقد تحققت إجابته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقد كان ابن عباس بحر العلم وحبر الأمة ورئيس المفسرين وترجمان القرآن.
وكان ابنُ عباس من أعلم الصحابة بتفسير القرآن. روى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه عن ابن عمر قال: هو أعلم الناس بما أنزل الله على محمد.
كان يسمى : الحبر والبحر ؛ لكثرة علمه ، وحدة فهمه ، فهو حبر الأمة وفقيهها ، ولسان العشيرة ومنطيقها ، محنك بريق النبوة ، ومدعو له بلسان الرسالة ، فقه في الدين ، وعلم التأويل ، ترجمان القرآن .
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ” كان ابن عباس -رضي الله عنه – قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحدًا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله -ﷺ – منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أثقب رأيًا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يومًا ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا التأويل، ويومًا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب، ولا رأيت عالمًا قَطُّ جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علمًا”.
وقال مجاهد: كان ابن عباس يُسَمَّى البحر لكثرة علمه، وقال عطاء: ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهًا، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، وأصحاب الشعر عنده يسألونه، فكلهم يصدر في واد واسع.
فكان ابن عباس يجلس يومًا ما يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا ما يذكر فيه إلا التأويل، ويومًا ما يذكر فيه إلا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب.
ويصف أبو صالح السمان ذلك المجلس فيقول: “لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجِيءَ وَلَا أَنْ يَذْهَبَ.
ثانيا : تعهد النبي ابن عباس بالنصح :
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء له ، بل كان يتعهده بالنصح ، من ذلك ما رواه الترمذي بسند حسن صحيح (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ « يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ».
هذا التوجيه الكريم من المصطفى – صلى الله عليه وسلم – للأمة في شخصية ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ليس تربية على الزهد أو توجيهها إلى اعتزال الحياة، ولكنها تصحيح العقيدة وتثبيت الإيمان.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْفَظِ اللَّهَ ” يَعْنِي: احْفَظْ حُدُودَهُ، وَحُقُوقَهُ، وَأَوَامِرَهُ، وَنَوَاهِيَهُ..وفي رواية ( أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»«سنن الترمذي » (٢٤٥٨) ،صَحِيح الْجَامِع(٩٣٥) .
” وَإِذَا سَأَلْتَ ” أَيْ: أَرَدْتَ السُّؤَالَ – أي الدعاء – فَاسْأَلِ اللَّهَ وصدق من قال :
لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
الله يغضبُ إن تركت سؤاله و بُنَيَّ آدم حينَ يُسألُ يغضبُ
وعموما فالْمَعْنَى إِذَا حَفِظْتَ طَاعَةَ اللَّهِ وَجَدْتَهُ يَحْفَظُكَ وَيَنْصُرُكَ فِي مُهِمَّاتِكَ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ، وَيُسَهِّلُ لَكَ الْأُمُورَ الَّتِي قَصَدْتَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَجِدُ عِنَايَتَهُ وَرَأْفَتَهُ قَرِيبًا مِنْكَ يُرَاعِيكَ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، وَيُنْقِذُكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَضَرَّاتِ، وَيُسْعِدُكَ بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْكَرَامَاتِ، فَهُوَ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)ق «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (٨/ 3323).
” وَاعْلَمْ ” : أَنَّ الْأُمَّةَ ” أَيْ: جَمِيعَ الْخَلْقِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ ” لَوِ اجْتَمَعَتْ ” أَيِ: اتَّفَقَتْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا ” عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ ” أَيْ: فِي أَمْرِ دِينِكَ أَوْ (لَمْ يَنْفَعُوكَ) أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ (إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ) أَيْ: قَدَّرَهُ، وَأَثْبَتَهُ فِي الذِكْرِ وَفَرَغَ مِنْهُ، وَقَدْ أَذِنَهُمْ فِي ذَلِكَ ” وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ ” أَيْ: مِنْ سَلْبِ نَفْعٍ أَوْ جَلْبِ ضُرٍّ ” لَمْ يَضُرُّوكَ ” أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَضُرُّوكَ ” إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ “وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّكَ وَحَدُّ اللَّهِ فِي الْمَطْلَبِ وَالْمَهْرَبِ، فَهُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ وَالْمُعْطِي الْمَانِعُ.«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (٨/ 3324).
ثالثا : غرس الأمل في طفولته :
لقد صحب ابنُ النبي صلى اللهُ عليه وسلم نحوًا من ثلاثين شهرًا، وروى عنه شيئًا كثيرًا، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه، وكثرة فهمه، وكمال عقله، وسعة فضله، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس» ، ولا يخفى على لبيب ما في غرس الأمل في قلب الطفل من دوافع وحوافز تعبر بالطفل من اليأس الى العمل الجاد ، ومن وضعف الهمة الى قوة العزيمة ، ومن العبث الى الجد ….الخ .
فضل ابن عباس وكراماته :
همته في طلب العلم بعد رسول الله :
كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ – أي من الصحابه – فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ، مَا جَاءَ بِكَ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ.
وقال عن نفسه: ” إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”. هكذا راح فتانا العظيم يسأل ويسأل ويسأل.. ثم يفحص الإجابة مع نفسه.. ويناقشها بعقل جريء. وهو في كل يوم, تنمو معارفه وتنمو حكمته حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم وحصافتهم.
تقدير الخلفاء الراشدين له:
وكان يرجع إليه في معضلات المسائل كما سنرى، وكان مستشارًا له، وأمرّه سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) على موسم الحج؛ لما حوصر في المدينة، وولاه سيدنا علي بن أبي طالب قضاء البصرة، وأرسله لحدال الخوارج ، ومناقبه وفضائله، أكثر من أن تحصى وتعد، فقد فاضت به الكتب والمجلدات.
ولي القضاء لسيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير، فقد روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: “كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: ﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح ﴾، وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ” .وَقَالَ المُهَاجِرُوْنَ لِعُمَرَ: أَلَا تَدْعُو أَبْنَاءنَا كَمَا تَدْعُو ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: ذَاكُم فَتَى الكُهُولِ؛ إِنَّ لَهُ لِسَانًا سَؤُولًا، وَقَلْبًا عَقُوْلًا).
زهدة في الدنيا وقربه من الله :
قال طاووس: ما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا لحرمات الله من ابن عباس، وقال أبو رجاء: رأيت ابن عباس، وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء.
تواضعه للعلماء :
ومن أشهر المواقف أيضا التي يكثر الاستدلال بها كان سيدنا عبد الله بن عباس مع سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنهما ، فأراد زيد أن يركب فرسه، فأمسك عبد الله فأمسك بزِمام الدابة يقودها لزيد بن ثابت كاتب القرآن الذي بين أيدينا، فقال زيد: “دَعْ هذا يا بن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد يدَ ابن عباس فقبَّلها وقال: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ! “..
يَا آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ حُبُّكُمُ ***فَرْضٌ مِنَ اللهِ فِي القُرْآنِ أَنْزَلَهُ
يَكْفِيكُمُ مِنْ عَظِيمِ الفَخْرِ أَنَّكُمُ***مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُم لَا صَلَاةَ لَهُ
رؤيته جبريل (عليه السلام) :
وكانت على هيئته التي خلقه الله (عزّ وجلّ) عليها مرتين، مع خفائه عن أعين الصحابة (رضي الله عنهم)، فعن ابْنَ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ، فَكَانَ كَالْمُعْرِضِ عَنْ أَبِي، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لِي أَبِي: أَيْ بُنَيَّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي؟ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ. قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبِي: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ: كَذَا وَكَذَا، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ يُنَاجِيكَ، فَهَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَهَلْ رَأَيْتَهُ يَا عَبْدَ اللهِ؟). قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَإِنَّ ذَاكَ جِبْرِيلُ، وَهُوَ الَّذِي شَغَلَنِي عَنْكَ) (مسند أحمد). وفي رواية: (ذَاكَ جِبْرِيلُ أَمَا إِنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهُ، وَيُؤْتَى عِلْمًا) (المعجم الأوسط). فتحققت نبؤة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس، فصار أعلم أهل زمانه، ومات كفيف البصر كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.
روايته الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم:
فسيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) خامس السبعة المكثرين من رواية الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه: (1660) ستين، وستمائة، وألف حديثٍ بالرغم أنه لم يتلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد هجرته إلى المدينة، فلم تتجاوز فترة تلقيه ثلاث سنوات، وبعضهم يجعلها ثلاثين شهرًا قبل أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم.
التصدي للمعضلات، وتحدي الأمم الأخرى:
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، أَنَّ هِرَقْلَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ فَسَيُخْبِرُنِي عَمَّا أَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَجَرَّةِ، وَالْقَوْسِ، وَعَنِ الْبُقْعَةِ الَّتِي لَمْ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَلَمَّا أَتَى مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ وَالرَّسُولُ قَالَ: (إِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ مَا كُنْتُ أُرَاهُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِي هَذَا، مَنْ لِهَذَا؟ قِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، فَطَوَى مُعَاوِيَةُ كِتَابَ هِرَقْلَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: (إِنَّ الْقَوْسَ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةَ بَابُ السَّمَاءِ الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ، وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الَّتِي لَمْ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَالْبَحْرُ الَّذِي أُفْرِجَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
القدرة على المحاورة، وإفحام الخصوم :
وعمق الاستدلال بآيات القرآن الكريم، ووضع الرجل المناسب في المكان الناسب: فعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال: (لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ ((بفتح الحاء) نسبة إلى (حروراء)، وهو موضع قريب من الكوفة كان أول مكان اجتمعوا فيه، و(خروجهم): هو انتقاضهم ما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ.
خرجوا على الإمام علي وذلك لما وافق على تحكيم الرجال حقنا لدماء المسلمين فكفروه ورفعوا شعارا أعلنوا به الفهم الأوحد لكتاب الله وأنهم الذين يمتلكونه فقط دون غيرهم من المسلمين؛ قالوا: ﴿إن الحكم إلا لله﴾!
ذهب إليهم ابن عباس وحاورهم بمنتهى الحكمة والعلم، فرجع معه ٢٠٠٠ رجل بعد أن أقنعهم بالحجة.
وفاته وكراماته :
وكان يُصَفِّر لحيته، وقيل: كان يَخْضِبُ بالحِنَّاء، وكان جميلاً أبيض طويلاً، مُشْرَباً صفرة، جسيماً وسيماً صبيح الوجه، فصيحاً.
وحج بالناس لما حُصر عثمان، وكان قد عمي في آخر عمره، فقال في ذلك:
إنْ يأْخذِ اللّهُ مِنْ عَيْنَيّ نُورَهُما … فَفي لِسَاني وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ
قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَل … وَفِي فَمِي صَارِمٌ كالسَّيفِ مأْثورُ
وقد وفد على معاوية، فأكرمه وأجازه. وجاء أنه كان يلبس حلة بألف درهم..
مرض عبد الله بن عباس، فبينا هم عنده إذ قال في مرضه: إني أموت في خير عصابة على وجه الأرض، أحبهم إلى الله، وأكرمهم عليه، وأقربهم إلى الله زُلْفَى، فإن مت فيكم فأنتم هم. فما لبث إلا ثماني ليال بعد هذا القول حتى توفي رضي الله عنه، فصلى عليه محمد بن الحَنَفِيَّة، فأقبل طائر أبيض فدخل في أكفانه، فما خرج منها حتى دفن معه، فلما سُوِّيَ عليه التراب قال ابن الحنفية: مات والله اليوم حَبْرُ هذه الأُمة
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَشَهِدْنَا جِنَازَتَهُ، فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ حَتَّى دَخَلَ فِي نَعْشِهِ، ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، لَمْ يُدْرَ مَنْ تَلَاهَا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ – ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً – فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 29]. رواه الطبراني.
الواجب علينا :
يجب علينا عدة أمور باختصار شديد :
– تربية روحية تبدأ بالدعاء والتزكية.
– صحبة صالحة مع المعلّم الرباني.
– فهم عميق للقرآن يُراعي المعنى والمقصد.
– تهذيب أخلاقي يمنع الغرور، ويُؤسس للأدب.
– عقل منفتح على الحوار، متصل بجذور الوحي.
وأخيرااااااااااااااااا:
يا ربِّ صلِّ على النبيِّ المصطفى.. أزكى الأنامِ وخيرُ من وَطِئَ الثَرى
يا ربِّ صلِّ على النبيِّ وآلهِ ….. تِعدادَ حبَّاتِ الرِمـالِ وأَكثَرا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم…ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182]..
تم بحمد البحث بحمد الله … اخوكم الشيخ / رضا