خطبة بعنوان «بداية جديدة وأمل جديد»
لفضيلة الشيخ : أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ٢ من محرم ١٤٤٧هـ الموافق ٢٧ من يونيو ٢٠٢٥م
لتحميل الخطبةpdf اضغط أدناه
أحمد عزت. بدايةٌ جديدةٌ وأملٌ جديدٌ
العناصر
ا- معنى الأمل
٢- وما أهميته؟
٣- وكيف ؟
٤- وما مصادر الأمل في حياة المسلم؟
الحمد لله منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب سبحانه هو الله العزيز الوهاب.
سل أبا البشر آدم لما أكل من الشجرة من الذى ألقى عليه الكلمات وعليه تاب.
سل ابني آدم عندما قتل الأخ أخاه فعجز عن دفنه فبعث الله له الغراب.
وسل يوسف بن يعقوب من الذى أخرجه من السجن ونجاه من مكر امرأة العزيز عندما غلقت الأبواب.
وسل داوود عندما جاءه الخصمان “وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورو المحراب” “فظن إنما فتناه فاستغفر ربه فخر راكعا واناب”
وسل سليمان بن داوود عندما دعا ربه مبتهلًا “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”
وسل أيوب عندما “نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ” فجاءه من الله الجواب “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ”.
وسل زكريا عندما أتته الملائكة فبشرته بيحيى وهو “قائم يصلي في الْمِحْرَاب”.
وسل مريم العذراء عندما دخل عليها زكريا “وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ”.
وسل المسيح عيسي بن مريم عندما انتفض رضيعًا “قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ”.
أحمده جل جلاله على رفع الشك والارتياب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة ومرفأ الأمان. وبعد
فإن الناظر في أحوال الدنيا، وتقلب الأيام والليالي يرى فيها شدة، ظلمة، وهناك مواقف عصيبة تمر على الأمة يتزلزل فيها أهل الإيمان ويُزلزلوا زلزالًا شديدًا “حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب” [البقرة: ٢١٤].
وأحيانًا يواجه الإنسان في حياته كثير من المحن والشدائد فتصيبه بشيء من اليأس والإحباط، فينظر لكل شيء نظرة يأس، وربما تدخله في دائرة الشك في الله عز وجل فتقعده عن الحركة والعمل، فمن أجل الله تعالي بحجة أنه لا فائدة فيجلس ينتظر الموت. ولكن!!
ولكن ثمة إحساس داخلي يخبرنا أن هذه الظلمة ستنقشع، وأن هذا الليل سينجلى، وأن هناك شواهد تدل على صدق هذا الإحساس، هذا الإحساس قد نسميه “الأمل في تغير الواقع”
هذا الإحساس هو “الإيمان”، وهذه الشواهد هي وقائع التاريخ، وشهادة الواقع.
وفي وصية النبي ﷺ لابن عباس: “واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا”
فعلى المسلم أن لا يتخلى عن إيمانه بالله، وأن يتحلى بالأمل في رحمة الله ويثق في وعد الله تعالى، ولا يتسرب اليأس أو القنوط إلى قلبه، وكيف يتسرب اليأس إلى قلب مؤمن يتلو قول تعالى “ولا تيأسوا من روح الله” [يوسف: ٨٧]
أولًا: الأمل في القرآن الكريم
إذا نظرنا في كتاب الله القرآن، نجده هو المذكِّرُ وهو المربي للنفوس، لكي تعلو على همومها وآلامها وضعفها ويأسها وجراحاتها، نجد أن كلمة “الأمل” ذكرت مرتين: الأولى: جاء ذكرها في إتجاه سلبي؛ حيث ذكرت في سياق الذم والإنكار والتقبيح عندما يكون الأمل مقرونًا بالركون إلى الدنيا وإتباع الشهوات، حينما يضع الإنسان كل اهتماماته في الدنيا، ويجعلها غاية الآمال، فيغتر بشهواتها بما ينسي الآخرة والسعي لها، قال الله تعالى-: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: ٣].
والثانية: جاء ذكرها في إتجاه إيجابي، حيث ذُكرت في سياق المدح، والترغيب فيما عند الله من خيرٍ، حينما يجعل الإنسان موضوع الأمل متعلقًا بعطاء الله ومغفرته وتوفيقه وحفظه وتأييده، يقول الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: ٤٦].
ويبث القرآن الكريم في نفوسنا روح الأمل حينما يحدثنا عن
– الشفاء الذي يعقب المرض:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]؛ يقول: وإذا سقم جسمي واعتل، فهو يبرئه ويعافيه، فالمؤمن لا ييأس إن مرض؛ فهو يرجو أجر المرض، ويسأل الله العافية؛ قال النبي -ﷺ-: (ما من مسلم يصيبه أذًى، مرض فما سواه، إلا حطَّ الله له سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها).
– الأمل في الذرية بعد العقم:
المؤمن كله أمل في كرم الله؛ فهو سبحانه الوهاب، فيقتدي المسلم بالأنبياء، ويسأل رب الأرض والسماء؛ ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٩ – ٩٠].
– الأمل في الأمن بعد الخوف والنصر بعد الهزيمة: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦]، تذكير من الله عز وجل لأصحاب رسول الله -ﷺ- وبشرى لكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ونود التنبيه هنا إلى أننا نريد بالأمل هنا الذي نتحدث عنه هنا ضد اليأس والقنوط، إنه يحمل معنى البشر وحسن الظن، ذلك الإتجاه الإيجابي، تلك الشعلة أو ذلك القبس من النور الذي يجب إيقاده في قلوب الناس.
لا نريد به ذلك الإتجاه السلبي المذموم الذي وردت فيه أقوال للسلف تحذر منه؛ كما جاء عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ”،
ثانيًا: أهمية الأمل في الحياة:ـ
لَقدْ جعلَ اللهُ تعالَى الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّبِ لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وأملٌ ويأْسٌ، ويأتِي الأملُ والتفاؤلُ كشُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دياجِيرَ الظلامِ، ويشقَّانِ دُروبَ الحياةِ للأنامِ، ويَبْعَثان في النَّفْسِ البشريَّةِ الجِدَّ والمثُابَرةَ، ويلقِّنانِها الجَلَدَ والمصُابَرَةَ.
فالأمل للأمة كالروح للجسد، فلولا الأمل ما بني بانٍ ولا غرس غارس ولولا الأمل لما تحققت أي إنجازات ولا أهداف. وإلا فما الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطر، ومفارقة الأهل والأوطان؟ إنه أَمَلُهُ في الربحِ.
وما الذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ؟!
إنه أملُهُ في النجاحِ.
وما الذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ؟ إنه أمله في إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة.
وما الذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ، وربما في ببعض الأحيان أن يقطع من جسده في عملية جراحية؟! إنه أملُهُ في الشِّفاءِ والعافية.
فالذي يدفع الزارع إلي الكد والعرق ويرمي بحبات البذور في الطين: أمله في الحصاد وجني الثمار.
والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم ييأسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ.
والأمل قبل ذلك كله شيء حلو المذاق، جميل المحيا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق.
ثالثًا: الأمل؟
الأمل: هوتعلق القلب بالله وحده في تحصيل ما ينفع ودفع ما يضر، وقطع التعلقَ بالمخلوقين، فهم لا يملكون لأحد ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.
الأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة على جده، كما أنه يدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح، ويحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه
هو انشراح النفس في وقت الضيق والأزمات؛ بحيث ينتظر المرء الفرج واليسر لما أصابه، والأمل يدفع الإنسان إلى إنجاز ما فشل فـيه من قبل، ولا يمل حتى ينجح في تحقيقه.
وهو عبادة الوقت!.
الأمل من العبادات القلبية والأصول الإيمانية، فالأمل من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبها تفاضل العارفون،
وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤].
وهو العبادة التي جمعت بين التفويض والتسليم لله رب العالمين، وقد خلق الله الخلق جميعًا لغايةٍ واحدةٍ؛ وهي عبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ الْإِنسَ إلَّا ليَعْبُدُونِ.} [الذاريات: ٥٦].
فالأمل حياة
نعم الأمل حياة؛ هكذا يعلمنا رسول الله ﷺ أن الأمل والاستبشار بالخير من صفات المؤمن القوي: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان) [رواه مسلم].
فكيف تبنى الأمل داخلك؟
١. ثق أن كل شيء سيكون على ما يرام ما دمت واثقًا في وعد الله فلا تدع عقلك يفكك الأمل داخلك حتى لا يصبح موجودًا.
٢. كن صبورًا! في الأوقات التي تشعر فيها بالاحباط، أو بالخوف، ففي الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا” كما أخبر النبي ﷺ.
٣. ابحث عن دلائل على أن الأمل لا يزال حيا : أنت لست بحاجة إلى أن تنظر بعيدا. الآن بالفعل ، انت تتنفس الغاز المناسب تماما لقوة حياتك: الأوكسجين! أليس هذا دليل كاف على أن العالم على جانبك و يعمل لصالحك؟
٤. لا تدع الخوف يفسد قراراتك: الأمل لا يعنى القضاء على تذبذب الحياة صعودًا وهبوطًا تمامًا. الأمل هو الاعتقاد أنه على الرغم من هذا الصعود والهبوط، كل شيء سيسير على ما يرام.
صور مشرقة تبعث فينا الأمل:ـ
كم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وإغراق عدوهم، وقصة أيوب ويونس، والمثل الأعلى للمصلحين، والأسوة الحسنة للسائرين، وحجة الله على العالمين سيدنا رسول الله ﷺ
ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو قومه إلى الإسلام، فيلقون دعوته بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وحججه بالأكاذيب، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل.
اشتد أذى المشركين لأصحابه، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم في ثقة ويقين: “تفرقوا في الأرض وإن الله سيجمعكم”.
وفي الهجرة من مكة، والنبي -ﷺ- خارج من بلده خروج المطارد المضطهد الذي يغير الطريق، ويأوي إلى الغار، ويسير بالليل، ويختفي بالنهار ينزل عليه -ﷺ- قول الله تعالي: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (القصص: ٨٥) فما هو بتاركك للمشركين، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة، ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك، ويستبدون بك وبدعوتك، ويفتنون المؤمنين من حولك. إنما فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره، وفي الوقت الذي فرضه؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد، ولكنك غدًا منصور إليه عائد.
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب، ليمضي -ﷺ- في طريقه آمنًا واثقًا، مطمئنًا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه، ولا يستريب لحظة فيه.
ففي هذا الموقف الشديد الحالك يبث الأمل في نفوس أصحابه، حينما يشتد خوف الصديق رضي الله عنه على النبي -ﷺ- وهو يقول: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له النبي ﷺ: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”،
وكانت العاقبة ما ذكره القرآن {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا ۗ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: ٤٠).
وفي الطريق يلحقه الفارس المغامر سراقة بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم -جائزة قريش لمن يأتي برأس محمد -ﷺ- حيًا أو ميتًا ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول، ويكشف الله له عن الغيب المستور لدينه فيقول له -ﷺ-: “يا سراقة كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟ فيعجب الرجل ويبهت ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: “نعم”.
بل إن الناظر في السيرة النبوية في أول فجرها، ويرى تعذيب الرعيل الأول من الصحب الكرام، ويرى الأعداء الضعيفة التي تدخل الإسلام، في مقابل قوى الشر والطغيان يتخيل أن هذا الدين لن ينتشر ولن تقوم له دولة، ففي قصة غزوة الأحزاب، يتألَّب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه: قريش وغطفان، ومن يحطب في حبلهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل، موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بالله الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١٠-١١].
فلما أمر رسول الله ﷺ بحفر الخندق، عرض للصحابة فى بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فلما رآها أخذ المعول وقال: “بسم الله” وضرب ضربة فكسر ثلثها.
وقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله” ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض”.
ثم ضرب الثالثة فقال: “بسم الله” فقطع بقية الحجر، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكانى الساعة” أليس هذا هو التمسك بالأمل حتى في أحلك الظروف، كيف وهو القائل ﷺ: “وأن الفرج مع الكرب” وهذا يشهد له قوله عز وجل: “وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته” [الشورى: ٢٨].
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.. وبعد.
ففي البخاري قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم، حين رآه مترددًا في الدخول في الإسلام، قال: “يا عديُّ، هل رأيتَ الحِيرةَ؟ قلتُ: لم أرها وقد أنبئتُ عنها، قال: فإن طالت بك حياةٌ لَتَرَيَنَّ الظعينةَ ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالَتْ بكَ حياةٌ لتُفتحن كنوزُ كسرى، قلتُ: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لتريَنَّ الرجلَ يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب مَنْ يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، قال عدي -رضي الله عنه- وأرضاه: فرأيتُ الظعينةَ ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللهَ، وكنتُ فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قال النبي أبو القاسم ﷺ”.
إنه بثٌ لروح الأمل حتى في أشد أوقات الأزمات يوم الأحزاب تلك المعركة التي كانت حرب أعصاب وكان أحدهم لا يأمن الذهاب لقضاء حاجته كان يبشرهم ﷺ بفتح بلاد فارس والروم واليمن
في هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة. في هذه اللحظات والنبي ﷺ يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة،
يُحدِّث النبي ﷺ أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق، فقالوا في ضيق وحنق: إن محمدًا يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده! أو كما قال القرآن: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: ١٢].
ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة، فينير الطريق ويبدد الظلام؟
إنه الأمل، وإن شئت فهو الإيمان بنصر الله: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ الله لَا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:٥، ٦]
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ
الدعاء