الحج غُفرانٌ يفيض من السماء، وولادة جديدة من نور
28 مايو، 2025
منبر الدعاة

بقلم الدكتور : السيد نجم من علماء الأزهر الشريف
الحمد لله الذي جعل في مواسم طاعته مغفرةً لمن أقبل، ونفحاتٍ لمن تهيأ واستقبل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وسعت رحمته كل شيء، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، ودالًا على مواطن الغفران ومهابط الرضوان، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أيها المشتاقون إلى الرحمة :
ما من عبادة في الإسلام تُشبه الحج في طهارته الشاملة، وعفوه الغامر، ومغفرته التي تهبط كالغيث على أرضٍ عطشى، فتُنبِت من القلب حياةً جديدة إن الحج، كما وصفه النبي ﷺ، أعظم مواسم الغفران، وأكمل ميادين التجرد والتوبة، من بلغه وأدّاه كما أمر الله، فقد نال منحةً ربانية لا تُوزن بميزان الدنيا يقول الحبيب ﷺ: “من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه”، تأمّل هذه العبارة النبوية التي لا تُشبهها عبارة: رجع كمولودٍ خرج للتو من رحم الصفاء، لا يحمل في قلبه ولا جوارحه ذنبًا ولا وزرًا، وكأن الجبال التي أثقلت كاهله قد نُزِعت، والعين التي غفلت قد غُسِلت، والقلب الذي قسا قد لان وسَكَن.
وفي حديث آخر قال ﷺ: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”، والجنة كما نعلم لا تُنال إلا بعد مغفرةٍ شاملةٍ وعفوٍ تام، فهذا دليل آخر على أن الحج بابٌ يُفضي إلى عرش الرحمة، وسُلَّم يُصعد بالروح من الذنوب إلى مقام القرب.
وقد فهم أهل الله هذا المعنى بعمق القلب لا بظاهر القول، فقال ابن عطاء الله السكندري: “الحج هو سفر من الكون إلى المكوِّن، ومن النفس إلى رب النفس، فإذا غفلت عن الغاية صرت سائحًا، وإذا استحضرت القصد صرت حاجًّا.”، وقال الإمام الجنيد: “ما حجّ إلا من حج بقلبه قبل جسده، وعرَف الله في عرفات قلبه قبل أن يعرفه في أرض عرفات.”، فالمغفرة عندهم ليست وعدًا بعيدًا، بل ثمرة التذلل والانكسار، حين يسجد العبد بقلبه قبل جبهته، ويبكي في المزدلفة وهو يعلم أن لا أحد يغفر الذنوب إلا الله.
انظر إلى يوم عرفة، وقد وقف الناس بقلوب خاشعة، وعيون دامعة، ووجوه تَعرّقَت تحت شمس الذنوب التي أثقلت الأعمار، ثم هبّت نسائم المغفرة، فإذا بالحديث القدسي يقول: “أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم”، فتُعتق الرقاب، وتُمحى الخطايا، وكأن العبد عاد من قبر نفسه حيًّا بقلبٍ جديد أليس هذا هو الميلاد الحقيقي؟ أليست هذه هي الرحمة المطلقة؟
فاللهم يا واسع المغفرة، ويا من فتحت لعبادك أبواب التوبة في كل حين، لا تحرمنا من حجٍ مبرور، وذنبٍ مغفور، وسعيٍ مشكور، اللهم إن لم نبلغ ببدننا بيتك، فلا تحرم قلوبنا من الوصول إليك، واجعل لنا في كل شوقٍ إليك غفرانًا، وفي كل دمعٍ لك قربًا، وفي كل دعاءٍ رفعةً في الدارين، يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.