آيات الحج (4)



بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

ختمت الآيات في المقال السابق بالحديث عن التزود من التقوى في الحج، والتقوى في الإسلام ليست هي الانخلاع من كل حظوظ الجسم ومتاع الدنيا، إنما هي تقوية الروح لتسيطر على الجسم، وتقوية الجسم ليؤدي مقاصد الروح،

ولذلك أردفت الآية الداعية إلى طلب الزاد الروحي من التقوى بالآية التي تنفي الإثم عن مطالب الجسد، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}فيها جواز التجارة والكسب والتربح في الحج، وهذه إحدى منافع الحج المادية التي قال الله تعالى فيها: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج: 28]، وعبَّر بالفضل دون الرزق؛ لأنَّه زائداً عن الحاجة، فالحاج ذهب للحج بزاده وطعامه وشرابه، وأباح له التكسب بالتجارة، التي يكتفى فيها بالربح اليسير، ولا يكون فيها شائبة ظلم، ولا استغلال حاجة الحجيج.

{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}تفيض عرفات بأرواح الحجيج بعد طُهرها كما تفيض الأنهار بالمياه الطاهرة العذبة، وعرفات: علم للموقف الذي يتعارف عنده الناس

{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}الْمَشعر: العلامة، وهو جبل في آخر المزدلفة ويشترط للوقوف بها أن يكون بعد الوقوف بعرفة، وتسمية مزدلفة بالمشعر الحرام دون عرفات وغيره من المشاعر تأكيداً على أن الذكر والمبيت فيها من أعمال الحج وشعائره، وأنَّ عرفات مشعر حلال، فيجوز للمحرم قطع شجره لمن له فيه حاجة. وتخصيص الأمر بذكر الله عند الإفاضة من عرفات وعند مزدلفة دون الوقوف بعرفة؛ لكونه مما تركه أهل الجاهلية.

{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}الكاف للتعليل أي اذكروه لهدايتكم، أو للتشبيه أي اذكروه على الوجه الذي هداكم إليه وشرعه لكم، وإذا أوشكت أعمال الحج على الانتهاء فاذكروا الله كثيرا، فذكر الله محبوب إلى الله تعالى على كل حال، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}[آل عمران: 191]

{وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}عن أعمال الحج، فقريش لا تفيض من عرفة، وتقف يوم عرفة في المزدلفة، ولا يفيضون من حيث أفاض الناس؛ زعماً منهم أنهم أهل الحرم؛ فلا يخرجون عنه،

فقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فالناس في أحكام الله تعالى سواء؛ فلا يخص أحد بحكم من الأحكام إلا لمعنًى يقتضي ذلك، والجميع مطالبون بأن يفيضوا مع الناس، ومن حيث يسيرون، لَا يختص أحد بطريق، ولا يُمنع أحد من طريق، كما كانت تفعل قريش في الجاهلية كانوا يقفون بالمزدلفة، ولا يقفون مع سائر الناس بعرفة، فأمرهم الله سبحانه بأن يقفوا كما يقف كل الناس، ويفيضوا كما يفيض كل الناس؛ لأنهم جميعا في تلك البقعة المباركة وفي ذلك المنسك المعظم في ساحات رب العالمين.

{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} لأن العبادة تُطَهر النفس وتزيل أدرانها، وترقق القلب فتجعله يحس بذنبه، فيضرع إلى المولى أن يستره بستره، ويصفح عنه بعفوه، ولأن المؤمن كلما أرتقت مشاعره وقويت روحه في ساحة المناسك، أحس بأنه مقصر أمام المنعم، لا يصل إلى الوفاء بحقه، فيلجأ إلى الاستغفار عن التقصير، والاستغفار ثمرة الحج، لأنه التطهير النهائي للنفس، فيعود الحاج الذي لم يفسق ولم يرفث كيوم ولدته أمه{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كثير المغفرة عظيم الغفران والسبب في ذلك أنه واسع الرحمة، ومن رحمته بعباده أن شرع لهم هذه المناسك، وفتح لهم باب التوبة والاستغفار.

اترك تعليقاً