من يعش بوعي غيره، لا يدرك حقيقة نفسه


بقلم د/ عبدالفتاح سعيد وزير
الباحث بجامعة الأزهر الشريف

 

إن العيش بوعي غيرك هو إلغاء لخصوصية التكريم الإلهي الذي مُنح للإنسان بالعقل والتمييز. فالحقيقة التي يدركها الإنسان عن ربه، وعن وظيفته في الحياة، وعن مصيره، هي حقيقة شخصية لا يمكن توريثها أو استعارتها.

وعندما يستعيد الإنسان وعيه الأصيل، المتحرر من ضغط القطيع والتبعية، فإنه يدرك حقيقة نفسه: أنه كائن مكلف، مسؤول، مختار، وأن هويته الحقيقية تكمن في قدرته على صناعة قراره ووعيه وفقاً لهداية الوحي والاجتهاد العقلي

إن حقيقة الوجود الإنساني تقوم على الاختيار والمسؤولية الفردية. والوعي، بصفته إدراك الإنسان لذاته وموقفه من الكون، لا يمكن أن يكون عارية تُسترد، بل هو صنيعة النفس الحرة. فالذي يتبنى أفكار غيره ومناهجهم دون تمحيص ونقد، ولا يُعمل عقله في الوصول إلى الحقيقة، يعيش في سجن التقليد، ويظل غريباً عن حقيقة نفسه التي كرمها الله بالتفكير والتدبر.

لقد قام التشريع الإسلامي على مبدأ المحاسبة الفردية؛ فالإنسان مسؤول عن اختياراته وقراراته وعمله، وهو ما يؤكد على وجوب استقلالية الوعي والقرار:

الكل مسؤول عن عمله: قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: 38). وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام: 164).

  هذه الآيات تُرسخ أن تبعة العمل، سواء كان فكراً أو سلوكاً، تقع على الفاعل وحده. فلو كان الوعي مستعاراً، لكانت المسؤولية مشتركة. لكنّ التكليف الفردي يوجب الإدراك الفردي.

ذم التقليد الأعمى: أشد صور ضياع الوعي هي التبعية للآباء أو الكبراء دون دليل، وهو ما ذمّه القرآن الكريم بشدة على لسان الأمم السابقة:

 ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ (لقمان: 21).

 هذه الآيات تصف بوضوح عاقبة من ألقى بوعيه في يد غيره، فكانت النتيجة هي الضلال عن السبيل، وهو الضلال الذي يفصل الإنسان عن حقيقة الإيمان والتوحيد.

كرم الإسلام العقل ودعا إلى إعماله، وجعله مناط التكليف، وهو ما يؤكد على ضرورة استخدامه بصفة شخصية للوصول إلى اليقين:

 * التفكر والتدبر: القرآن مليء بالدعوة إلى التفكر والتدبر، وتقديم الأدلة العقلية على وجود الله ووحدانيته، واستخدام ألفاظ مثل ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ و ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

* قال ابن القيم الجوزية في وصف العقل الذي ينير القلب: “كما أن نور العين لا يَرى إلا مع ظهور نور قدّامه (أمامه)، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة”. هذا يؤكد أن العقل هو الأداة، والوحي هو الهادي، لكن الأداة يجب أن تكون عاملة وصالحة.

 * المرء على دين خليله: إن الأحاديث النبوية تؤكد على خطورة التبعية للغير في قضايا السلوك والاعتقاد. قال النبي ﷺ: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه أبو داود).

   * هذا التوجيه ليس مجرد نصيحة اجتماعية، بل هو تحذير من استعارة منهج حياة وفكر وسلوك من الآخرين، مما يؤثر على “دين” المرء (طريقته ومنهجه) وبالتالي يحجب عنه حقيقة نفسه وطبيعة واجبه.

 * الإمام الشافعي رحمه الله، وهو من الأئمة الذين حاربوا التقليد، قال كلمته المشهورة التي تحث على الأصالة الفكرية: “إذا صح الحديث، فهو مذهبي”.