البيت أكثر من جدران.. وطن صغير لبناء الإنسان

بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

 يُنظر إلى البيت في شكله الظاهري بوصفه مأوى يحتمي فيه الإنسان من تقلبات الطبيعة وضغوط الحياة، غير أنّ النظرة المتعمقة تكشف أن البيت الحقيقي يتجاوز هذا البعد المادي ليشكل فضاءً نفسيًا وروحيًا تتكون داخله الهوية الأسرية وتنمو مشاعر الانتماء وتتحقق السكينة الداخلية، فالبيت هو المجال الأول الذي يكتسب فيه الإنسان إحساسه بالأمان والاعتراف والجدارة، وهو اللبنة الأولى في بناء المجتمع حيث تغرس القيم الأساسية، وتتشكل أنماط السلوك، وتتراكم الذكريات التي تصوغ رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين. وتتبلور فيه الشخصية الأخلاقية والاجتماعية قبل خروج الفرد إلى العالم الواسع الرحب، لذلك فإن مفهوم البيت يمتد ليشمل شبكة العلاقات والمشاعر التي تمنح الإنسان الدفء والاحتواء، ويشعره بالانتماء إلى مكان يشبهه ويستوعبه.

ويمثل البيت الحاضنة الأولى التي تمنح الإنسان شعورًا بالطمأنينة والاستقرار؛ فالحاجة إلى الأمان تأتي مباشرة بعد الحاجات الأساسية في البناء النفسي للإنسان، فهو مخزن الذكريات والتجارب الأولى، وتتكون فيه ملامح الهوية الشعورية والرؤي والأحلام الأولى التي ترافق الفرد طوال حياته، إنه بمثابة الأرض النفسية الصلبة التي يستند إليها الإنسان ليواجه تحديات الحياة بثقة وقدرة على التوازن، وفي الثقافة الإسلامية، يرتبط البيت بمفاهيم السكينة والمودة والرحمة؛ كما يشير قوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، فالسكن سكن للروح وأُنس وطمأنينة تعيد للنفس توازنها.

 ويميل الفرد الذي ينشأ في بيت يسوده الدفء العاطفي والتواصل الصحي إلى امتلاك قدرات أعلى على التعاطف والوعي بالذات وبناء علاقات إنسانية مستقرة، حيث تمنحه هذه البيئة شعورًا داخليًا بالأمان والطمأنينة والاستقرار، وعلى النقيض، فإن الاضطراب الأسري يترك آثارًا عميقة على البناء النفسي للفرد، فيضعف ثقته بنفسه ويزيد من احتمالات القلق والتوتر والاضطراب العاطفي في مراحل العمر اللاحقة؛ فالبيت الحقيقي المتزن هو الذي تتناغم فيه القيم والمشاعر والسلوكيات، فيمنح أفراده سكينة وانتماء.

 ويُعد البيت حصن الأمان النفسي والعاطفي الأول، وفيه يتلقى الأبناء حبًا غير مشروط ودعمًا وتشجيعًا مستمرًا، ويأتي هذا الدور عبر تكامل مسؤوليات الرجل والمرأة؛ فالأم بحنانها واحتوائها، والأب برعايته وتثبيته، يشكلان شبكة أمان تربوية تنمي في الأبناء الشعور بالجدارة والثقة والتقدير، وقد أكد الإسلام هذا البعد الأسري حين جعل الرعاية والنفقة مسؤولية مشتركة، وحث على حسن المعاشرة بين الزوجين لضمان استقرار البيت، لأن استقامة العلاقة بين الكبار هي الأساس الذي يُبنى عليه توازن الأبناء، ومن ثم تماسك المجتمع بأسره.

وغالبًا ما يختزل مفهوم المودة والرحمة في الشعارات العاطفية والصور الرومانسية المستهلكة، بينما يقدم القرآن الكريم دلالة أعمق وأكثر أصالة لهذا المفهوم، فالمودة هي العاطفة الدافئة المتبادلة التي تتجلى في احترام الاختلاف الشخصي، وتقدير احتياجات الطرف الآخر، والتعبير الإيجابي عن المشاعر، وبناء ذكريات مشتركة تقوي الارتباط والانسجام، أما الرحمة فهي البعد الأخلاقي والإنساني في العلاقة، وتظهر في العناية والرعاية عند الضعف، وفي الصبر وقت الأزمات، والعفو عند الخطأ، والدعم النفسي والعاطفي في كل تفاصيل الحياة اليومية، وتشكل المودة والرحمة نسيجًا وجدانيًا وأخلاقيًا يقوم عليه الزواج، وهما بناء يومي يتأثر بظروف الحياة وتقلبات النفس، غير أنهما يظلان الجسر الذي يعبر عليه الزوجان لتجاوز الخلافات واستعادة التوازن؛ لأن أساس العلاقة الزوجية في بعدها الأصيل يقوم على القدرة على تحمل المسؤولية المتبادلة ورعاية الشريك والسعي لصناعة السعادة عبر العطاء المشترك.

وتعاني الأسرة المعاصرة في كثير من الأحيان من صراع حول الأدوار بين الزوجين، وهو صراع نابع من التحولات الاجتماعية والاقتصادية وارتفاع مستوى الوعي الفردي، إلا أن هذا الصراع يمكن تجاوزه حين يدرك الزوجان أن العلاقة الأسرية تقوم على الشراكة التكاملية وليس على التنافس، حيث توزع الأدوار داخل البيت وفق القدرة والكفاءة، والتعاون والدعم المتبادل، مع الإيمان بأن نجاح أحد الطرفين هو امتداد لنجاح الآخر، ومن ثم يصبح دعم كل طرف لطموحات شريكه عنصرًا أساسيًا في استقرار الأسرة وازدهارها، فالزوج والزوجة شريكان في بناء البيت وإدارته، والمرأة العاملة والرجل الداعم لمسؤوليات البيت، نموذج حضاري يحقق التوازن الأسري ويعزز التعاون.

ويفقد النزاع على الأدوار بالبيت معناه ويفتح الباب للتوتر وفقدان السكينة، بينما يرسخ التكامل قيم المودة والتفاهم، ويعيد له صفاءه واستقراره، وحين تتاح للمرأة والرجل على السواء فرص التعليم والتطور والتمكين الاقتصادي، فإن أثر ذلك ينعكس مباشرة على بنية البيت واستقراره، فالأم الواعية تنشئ أبناء أكثر التزامًا بالقيم وأكثر قدرة على التفكير والنضج، والأب المساند يوفر للأسرة شعورًا بالأمان والثقة، بينما الأبناء الذين يرون أمامهم نموذجًا واقعيًا للشراكة والتعاون داخل البيت ينشؤون أكثر استعدادًا للعطاء والمسؤولية.

ويسهم هذا التمكين الأسري في تحسين الظروف المعيشية، والحد من الفقر وتعزيز القدرة على مواجهة الأزمات، ويجعل من الأسرة نواة لمجتمع قادر على بناء أجيال متماسكة وواعية، فالبيت هو مرآة الوطن، وفيه تتشكل الانتماءات الأولى التي تؤسس لوعي الفرد بوجوده داخل المجتمع، ومن خلاله يتعلم الطفل حب الوطن، واحترام القانون، والتعاون مع الآخرين، ويحمل هذه القيم معه إلى المدرسة ثم إلى المجتمع والعالم أجمع، وهذا يوضح العلاقة القوية بين استقرار البيت واستقرار الوطن والسلم الاجتماعي؛ فكلما كانت الأسرة قوية وواعية ومتماسكة، انعكس ذلك قوة على الدولة والمجتمع.

ويُعد البيت خط الدفاع الأول عن هوية الأبناء وقيمهم وترسيخ قيم المواطنة لديهم، خاصة مع التزايد الهائل في التدفقات الإعلامية والثقافية العابرة للحدود، مما يدعو إكساب الأبناء حصانة أخلاقية وفكرية تقوم على الحوار والتربية الواعية والانفتاح المدروس، فالأسرة التي تربي أبناءها على التفكير الواعي والاتزان القيمي قادرة على إنتاج مواطنين مبدعين قادرين على فهم العالم دون أن يفقدوا جذورهم، وعلى الانفتاح دون ذوبان، وعلى التواصل دون تفريط في الهوية، قادرين على البناء والإصلاح في مجتمعهم.

ويؤكد الإسلام أن البيت نواة تبنى عليها النفس والخلق والمجتمع، فجعل رعاية الأسرة عبادة و مسؤولية اجتماعية وعملًا صالحًا يؤجر عليه المسلم، لأن البيت الصالح يصنع الإنسان الصالح، والإنسان الصالح هو دعامة المجتمع القوي، وبناء بيت ناجح هو مسار دائم يقوم على الوعي بالشخصية، واحترام الشريك، ووحدة الهدف نحو مستقبل مشترك، بيت تسوده السكينة وتنعشه المحبة ويملؤه الأمل والتفاؤل، فالبيت هو حاضنة القيم، ومدرسة الهوية الأولى، وأي جهد يبذل لتمكين الأسرة هو استثمار في الوطن كله؛ فصلاح المجتمع يبدأ من صلاح البيت، وكل بيت يحسن بناء نفسه يسهم في بناء وطن أكثر استقرارًا وازدهارًا.