حين تَتوهُ خُطاكَ في الدُّنيا… عُد إلى المسجد


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي

إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

حين تلتفُّ الدنيا حول عنقك، وتضيقُ بكَ الصدور، وتشعر أنك تسير في متاهةٍ لا أول لها ولا آخر، حين تتكاثر عليك الهموم وتغدو الأيام متشابهةً في وجعها، لا تعرف طريق الفرح ولا مأوى السكينة، عندها تذكَّر أن هناك مكانًا لا تُغلق أبوابه، ولا يُردُّ داخله خائبًا… إنه المسجد.

المسجد ليس فقط بيتًا من بيوت الله تُقام فيه الصلاة، بل هو وطنُ الروح، وملجأُ القلوب التي أنهكها الاغتراب. فيه تسكن الأرواح القلقة، وتستريح القلوب التي أرهقتها متاعب الحياة. كم من ضائعٍ وجد نفسه بين جدرانه! وكم من مهمومٍ خرج منه وقد تبدلت دموعه نورًا وسلامًا!

في المسجد، تتلاشى الفوارق، وتذوب الحواجز، ويقف الجميع صفًا واحدًا أمام الله، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لغني على فقير، إلا بالتقوى. هناك فقط تشعر بمعنى الإنسانية، وتشهد كيف يجمع الإيمان ما فرقته الدنيا.
في كل سجدةٍ خاشعةٍ هناك حياةٌ جديدة تُمنح لك، وفي كل ركعةٍ تُقام لله تُغسل ذنوبٌ كثيرة، وفي كل دعاءٍ بين يدي الله تُفتح لك أبواب السماء.

المسجد هو الدواء لمن أرهقه التعب النفسي، هو العلاج لمن تاه عن الطريق، وهو المرفأ لمن ضاقت عليه الدنيا بأكملها. تدخل إليه مثقلاً بالهموم، وتخرج منه خفيفًا كأنك لم تعرف الحزن يومًا. إنك حين تضع جبهتك على الأرض، لا تُلقي بثقل جسدك فقط، بل تُسقط أثقال الأيام عن صدرك، وتضع همومك بين يدي الله الذي لا يردُّ سائلًا ولا يخذل عبدًا.

في المسجد تتعلم الصبر، وتتعلم الصمت، وتتعلم كيف تتحدث إلى الله دون وساطة أو ضجيج. في المسجد تُربى النفوس على الطهر، وتتعلم القلوب كيف تحب بصدق، وتسامح بصفاء.
هو المدرسة الأولى التي تُخرج الرجال الأتقياء، والقلوب الرحيمة، والعقول المستنيرة. من محرابه انطلقت أعظم حضارات، ومن منبره وُلدت القيم والمبادئ التي عمَّت الأرض عدلًا ونورًا.

وحين تُطلّ فجرًا على المسجد، وتسمع صوت المؤذن يقول “الصلاة خيرٌ من النوم”، كأن السماء تُناديك لتوقظ فيك الحياة، لتقول لك: لا تيأس، ما زال هناك باب مفتوح، وما زال الله ينتظرك.
وكل من عرف طريق المسجد، لم يعد يومًا غريبًا في هذه الدنيا.

المسجد هو دارُ لقاءٍ بين الأرض والسماء، فيه تتنزل السكينة وتُمحى الذنوب، وتُكتب الآخرة من جديد. وكم من قلبٍ تائهٍ وجد في السجدة الأولى معنى الحياة كلها.

وطوبى لأهل المساجد، أولئك الذين عرفوا الطريق إلى الله حين أضاعه الآخرون، الذين لم تغرّهم أضواء الدنيا، فاختاروا نور القرب من الله. طوبى لقلوبٍ تهفو إلى الأذان كأنها تعود إلى بيتها بعد غياب طويل، ولعيونٍ تبكي في السجود حبًا لا خوفًا.
هؤلاء هم السعداء الحقيقيون، من جعلوا المسجد موطنًا لا يُغادر، ومنبرًا لا يُهجر، وملجأً لا يُستبدل. هم الذين يعيشون في الدنيا بقلوبٍ مطمئنة، يخرجون من بيوت الله وقد غُسلت صدورهم من الحسد والهم والضيق، ليحملوا للعالم سلامًا وضياءً.

يا من تتوه بين الطرق، وتبحث عن راحةٍ لا تجدها، تذكّر أن الأمان ليس في المال ولا في المنصب، بل في سجدةٍ صادقةٍ بين يدي الله، في بيتٍ من بيوته العامرة بالذكر والرحمة.
ارجع إلى المسجد… فهناك حياتك الحقيقية، وهناك تُولد من جديد كل يومٍ على ضوء الإيمان.