الغنى الحقيقي
27 أكتوبر، 2025
بستان الصالحين

بقلم الدكتور: إسلام عوض مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية
أربع خصال تغنيك عن الدنيا وما فيها؛ فالقيمة الحقيقية للإنسان، وميزان غناه وسعادته، لا يُقاس أبدًا بما يجمعه من حطام الدنيا الزائل، ولا بما يحوزه من جاه أو منصب عابر، بل إن المقياس الحقيقي للغنى يكمن في ذلك الرصيد الجوهري الثمين من الفضائل والأخلاق التي تُزكي النفس وتُرضي الخالق.
هذا المعنى العظيم هو ما لخصه لنا النبي صلى الله عليه وسلم في كلمات جامعة قليلة، لكنها تحمل كنزًا لا يُضاهيه كنز؛ حيث قال: “أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدقُ حديثٍ، وحسنُ خُلقٍ، وعِفَّةٌ في طُعمةٍ”.
هذا الحديث هو بمثابة “بوليصة تأمين” روحية. فالجملة المفتاحية “فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا” تعني أنَّ من حاز هذه الأصول الأربعة، فإن أي خسارة دنيوية (مال، منصب، متاع) لا ينبغي أن تثير فيه قلقًا أو حزنًا عميقًا، لأن ما اكتسبه من قيم هو الغنى الحقيقي الذي يضمن النجاة والسعادة الأبدية.
1. حفظُ أمانةٍ:
الاستقامة الشاملة
الأمانة في الإسلام مفهوم واسع وشامل، يتجاوز حفظ الودائع المادية؛ فالأمانة هي الاستقامة في أدق صورها، وتبدأ بأداء حقوق الله علينا؛ كأداء العبادات على الوجه المطلوب، وحفظ الجوارح من المعاصي والآثام، وتمتد لتشمل حقوق العباد، من حفظ الأسرار والعهود، إلى تحمل المسئوليات الوظيفية والأسرية بأكمل وجه، فإن من يتحلى بحفظ الأمانة هو دليل على نبل معدنه ونزاهته وقدرته على تحمل أعباء المسئولية في الحياة.
2. صدقُ حديثٍ:
عماد الوثوق
الصدق ليس مجرد مطابقة القول للواقع؛ بل هو صفة جامعة تتطابق فيها الأقوال مع الأفعال، والظاهر مع الباطن. صدق الحديث هو عماد التعاملات الإنسانية وأساس بناء الوثوق بين الأفراد والمجتمعات؛ وهو صفة الصديقين الذين يرتفعون عن تزييف الحقائق أو الكذب؛ فالمسلم الصادق لسانه وقلبه متفقان، وهو بذلك يبني جسور الثقة، ويستقيم أمره في الدنيا والآخرة.
3. وحسنُ خُلقٍ: أثقل الموازين
إذا كانت الأمانة والصدق صفات تتعلق بالالتزام الداخلي، فإن حسن الخُلق هو ترجمة عملية لهذه القيم في التعامل مع الناس؛ وهو يشمل كف الأذى، وبذل الندى (العطاء والكرم)، وطلاقة الوجه، والصبر على الغير، ولين الكلام، والتواضع. وقد أكد النبي “صلى الله عليه وسلم” أن حُسن الخُلق هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، فمن استطاع أن يحسن خلقه مع الناس، فقد استكمل فضائل الدين، ونال محبة الله ورسوله.
4. عِفَّةٌ في طُعمةٍ:
مفتاح القبول
العِفَّةُ في الطُّعمةِ تعني أن يكون رزق الإنسان ومكسبه حلالًا طيبًا، بعيدًا عن الشبهات وكل وسيلة محرمة كالغش أو الربا أو الرشوة. هذه العفة دليل التقوى وخوف الله، وهي الضمانة لصفاء النفس واستنارتها. وفي ميزان الدين، فإن كسب الحلال سبب رئيسي في استجابة الدعاء وقبول الأعمال؛ فالنفس التي تأبى المال الحرام هي نفس مؤهلة للبركة والسعادة الحقيقية.
الخلاصة:
إن هذه الخصال الأربع ليست مجرد نصائح أخلاقية؛ بل هي أركان متكاملة لبناء شخصية المسلم الغني حقًا؛ الغني بالقيم لا بالمال؛ إنها تعلمنا أن نقيس نجاحنا بما استطعنا تحصيله من فضائل، لا بما نملكه من زائل. ومن جمع هذه الأصول، فقد ضمن لنفسه خير ما في الدنيا وهو أهل لخير الآخرة وخسارة ما دون ذلك، لا تُعد خسارة تُذكر.