خطبة الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ للدكتور محمدٌ حِرْزٌ

خطبة الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾
للدكتور : محمدٌ حِرْزٌ

بِتَارِيخِ 9 جُمَادَى الأوَّلِ 1447 هـ، الْمُوَافِقُ 31 مِنْ أُكْتُوبَرَ 2025 م

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
ma anzalna alaek alqoran

الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْشَأَ وَبَرَا ، وَخَلَقَ المَاءَ وَالثَّرَى ، وَأَبْدَعَ كُلَّ شَيْءٍ وَذَرَا ، لَا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ دَبِيبُ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ إِذَا سَرَى ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأشهدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ وَفِي وَصْفِ النَّبِيِّ ﷺ:

لَمَّا رَأَيْتُ أَنْوَارَهُ سَطَعَتْ *** وَضَعْتُ مِنْ خِيفَتِي كَفِّي عَلَى بَصَرِي

خَوْفًا عَلَى بَصَرِي مِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ *** فَلَسْتُ أَنْظُرُهُ إِلَّا عَلَى قَدَرِي

رُوحٌ مِنَ النُّورِ فِي جِسْمٍ مِنَ الْقَمَرِ *** كَحِلْيَةٍ نُسِجَتْ مِنَ الْأَنْجُمِ الزُّهْرِ

فَاللّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ المُخْتَارِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ وسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ …..فَأَوْصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 102)

عِبَادَ اللّهِ: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.

 

عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:

أَوَّلًا: الْقُرْآنُ شِفَاءٌ مِنَ الشَّقَاءِ.

ثَانِيًا: الْقُرْآنُ عِلاَجٌ لِلْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ.

ثَالِثًا وَأَخِيرًا: التَّعَامُلُ مَعَ السُّيَّاحِ بِأَدَبٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ.


أَيُّهَا
السَّادَةُ: بَدَايَةً مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ ((﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾))، وَخَاصَّةً الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ شِفَاءٌ شَامِلٌ لِلْأَمْرَاضِ الرُّوحِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، فَهُوَ يُمْنِحُ الطُّمَأْنِينَةَ وَيَزِيدُ مَنَاعَةَ الْجِسْمِ، وَيُشْفِي الْقُلُوبَ مِنْ أَمْرَاضِهَا، وَخَاصَّةً وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ وَمُرَاعَاةِ الْحَالِ وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَدَرْأِ الْمُفْسَدَةِ، وَخَاصَّةً وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جَاءَ لِيُحَارِبَ الْغُلُوَّ وَالتَّشَدُّدَ وَالتَّنَطُّعَ وَالتَّكْفِيرَ وَجَاءَ لِيُحَارِبَ الْخُرَافَاتِ وَالتَّمْيِيعَ وَالتَّهَاوُنَ فِي أَمْرِ الدِّينِ، جَاءَ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالْاعْتِدَالِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ، أَنَّهُ مَنْهَجُ حَيَاةٍ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ.

أَوَّلًا: الْقُرْآنُ شِفَاءٌ مِنَ الشَّقَاءِ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَلَامُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا أَنْزَلَهُ عَلَى سَيْدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِشَقَائِه وَشَقَاءِ أُمَّتِهِ، بَلْ لِسُعَادَتِهِ وَسُعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا مُخَاطِبًا حَبِيبَهُ الْمُصْطَفَى {طَه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طَه: ١- ٣]. خِطَابٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطَمْئِنُهُ فِيهِ أَنَّ الْغَايَةَ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ في الشقاءِ أَوْ إِيقَاعِهُ فِي حَرَجٍ إِنَّمَا تَخْفِيفٌ وَتَيْسِيرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَا كَانَ يُعَانِيْهِ النَّبِيُّ مِنْ مَشَقَّةٍ فِي التَّعَبُّدِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ يَقُولُونَ إِنَّ تَرْكَهُ لِدِينِ آبَائِهِ قَدْ سَبَّبَ لَهُ الشَّقَاءَ وَالْعَنَاءِ. فَجَاءَتِ الْآيَةُ لِتُؤَكِّدَ أَنَّ الْغَايَةَ مِنَ الدِّينِ هِيَ الْيُسْرُ لَا الْعنْتُ، وَالسَّعَادَةُ لَا الشَّقَاءِ.

وَكَيْفَ لا؟
وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ تَيْسِيرٍ لَا تَعْسِيرَ يُؤَكِّدُ عَلَى مَبْدَأِ التَّيْسِيرِ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا. فَلَا يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْعِبَادَةِ إِلَى حَدِّ الضَّجَرِ أَوِ الْمَلَلِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥]، وقال قَالَ جَلَّ وَعَلَا {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨]،

وقال قَالَ جَلَّ وَعَلَا {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: ٦]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨]. عَنْ أَنْسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ]،

وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَرَوَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهَا مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: “مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا”. [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّـهُ: “فِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَيْسَرِ وَالْأَرْفَقِ، وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ وَطَلَبُ الْمَطَاقِ، إِلَّا فِي مَا لَا يَحِلُّ الْأَخْذُ بِهِ كَيْفَ كَانَ”.

وَكَيْفَ لا؟
وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ اللَّهِ الْمُبَارَكُ؛ مَا تَرَكَ مِنْ هِدَايَةٍ إِلَّا وَدَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا مَوْعِظَةً إِلَّا وَحَوَاهَا، وَلَا نُورًا إِلَّا وَوَعَاهُ، وَلَا تَرَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّفَاءِ الْبَدَنِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالْقَلْبِيِّ إِلَّا وَشَمِلَهُ وَتَمَلَّكَهُ؛ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الْإِسْرَاءِ:82].وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَدَاوَى بِالْقُرْآنِ هُوَ خَيْرُ الْأَنَامِ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ”(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَكَيْفَ لا؟
وَمَا ارْتَبَطَ أَحَدٌ بِالْقُرْآنِ إِلَّا فَضْلُهُ وَكَرَمُهُ عَلَى سَائِرِ جِنْسِهِ ارْتَبَطَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ فَكَانَ أَفْضَلَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ أَمِينٌ)) ارْتَبَطَ نَبِيُّنَا بِالْقُرْآنِ فَكَانَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ)) ارْتَبَطَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِالْقُرْآنِ فَكَانَ أَفْضَلَ الشُّهُورِ ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)) وَارْتُبِطَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِالْقُرْآنِ فَكَانَتْ سَيِّدَةَ اللَّيَالِي ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ))

وَكَيْفَ لا؟
أَنزَلَ القُرْآنَ هُوَ اللهُ وَالَّذِي يُسِرُ القُرْآنَ هُوَ اللهُ قَالَ جَلَّ وَعَلاَ (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَبْرُ الأُمَّةِ وَتَرْجُمَانُ القُرْآنِ: لَوْلَا أَنْ اللَّهَ يُسِّرَ القُرْآنَ عَلَى لِسَانِ الآدَمِيِّينَ، مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِّنَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ”.

وَكَيْفَ لا؟
وَالقُرْآنُ هُوَ مَنْبَعُ هِدَايَةٍ لِلْبَشَرِيَّةِ كُلَّهَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإِسْرَاء: ٩] هُوَ حَامِلٌ بَشَارَةً، يُبَشِّرُ مَن آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ بِالْحَيَاةِ الْآمِنَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الْعُلِيَّةِ عِندَ رَبِّ الْبَرِيَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإِسْرَاء: ٩]، وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكَهْف: ٢]، كَمَا أَنَّهُ كِتَابٌ نَذَارَة، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: ١٩] وَيُنْذِرُ مَن كَذَبَ بِهِ أَوْ خَالَفَ تَعَالِيمَهُ وَأَوَامِرَهُ، بِعَذَابِ اللَّهِ الَّذِي أَعَدَّهُ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإِسْرَاءِ: ١٠] وَقَالَ سُبْحَانَهُ {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الْكَهْفِ: ٢]

عَبادُ اللَّـهِ،
عَالِجُوا بُيُوتَكُمْ وَقُلُوبَكُمْ وَأَبْدَانَكُمْ وَعَقِيدَتَكُمْ وَمَشَاكِلَكُمْ مَعَ الحَيَاةِ، عَالِجُوهَا بِالْقُرْآنِ الكَرِيمِ، وَسَتَرَوْنَ كَمْ هُوَ عَظِيمٌ كَلَامُ اللَّـهِ، وَكَمْ هُوَ مُفِيدٌ، وَكَمْ هُوَ رَحْمَةٌ، وَكَمْ هُوَ شِفَاءٌ، قَالَ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ)؛ صَحِيحٌ مُسْلِمٌ،
وَقَالَ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ): ﴿اللَّـهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ…﴾ [البقرة: 255]، حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّـهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ…. الْحَدِيثُ؛ صَحِيحٌ الْبُخَارِيُّ.

الْقُرْآنُ عِلاجٌ لِأَهْلِ الْأَحْلَامِ الْمُزْعِجَةِ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ فِي نَوْمِهِمْ وَيُقَلِقُونَ، الَّذِينَ تَصْعَدُ بِهِمُ الشَّيَاطِينُ وَتَهْبِطُ بِهِمْ، لِقَرَأْ عِندَ نَوْمِكَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَلَا تَقْرَأْ وَأَنْتَ تَنْظُرُ فِي الْجَوَّالِ أَوْ مُشْغُولُ الْبَالِ، لَكِن تَمَعَّنْ وَارْكِزْ أَثْنَاءِ تِلَاوَتِهَا، وَانْفُثْ فِي يَدَيْكَ بَعْدَ قِرَأَتِهَا، وَامْسَحْ بِهَا جَسَدَكَ، قَالَتْ عَائشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ.

وَأَرْشَدَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَقْرَأَهَا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، لِمَا فِيهَا مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ شُرُورِ شَيَاطِينِ الْأُنْسِ وَالْجِنِّ، وَاِسْمَعُوا مَاذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، إِضَافَةً لِمَا سَمِعْتُمْ، قَالَ: (اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ… الْحَدِيثُ)؛ صَحِيحُ مُسْلِمٍ، أَي: السَّحَرَةُ..

اَقْرَؤُوا الْقُرْآنَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى أَهْلِيكُمْ، أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، هُمْ خَاصَّةُ اللَّهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَن هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ).

كُلُّ الْخَلَائِقِ فِي حِمَى الدّيَّانِ *** وَكِتَابُهُ هَدْيٌ عَظِيمُ الشَّانِ

يَا أُمَّةَ الْقُرْآنِ إِنَّ كِتَابَكُمْ *** لَهُوَ الشِّفَاءُ وَصِحَّةُ الْأَبْدَانِ

وَهُوَ الدَّوَاءُ لِكُلِّ جُرْحٍ غَائِرٍ *** وَهُوَ الْمُحَارِبُ نَزْغَةَ الشَّيْطَانِ

ثَانِيًا: الْقُرْآنُ عِلاَجٌ لِلْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ.

أَيُّهَا السَّادَةُ:
بِدايةً الإِسلامُ دِينُ الْوَسَطِيَّةِ، دِينُ الْاعْتِدَالِ، لَيْسَ دِينَ التَّطَرُّفِ وَالإرْهَابِ، لَيْسَ دِينَ التَّكْفِيرِ وَالْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ، لَيْسَ دِينَ التَّسَاهُلِ إِنَّمَا دِينُ الْوَسَطِيَّةِ وَالْاعْتِدَالِ فَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ، وَلاَ غُلُوًّا وَلاَ تَقْصِيرَ، وَلاَ مُبَالَغَةً وَلاَ مِيُوعَةً، قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي حَقِّ أُمَّةِ الإِسلامِ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]،

فَمُوَاجَهَةُ التَّكْفِيرِ وَالْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، وَوَاجِبٌ وَطَنِيٌّ، وَعَمَلٌ إِنْسَانِيٌّ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ، وَمَقْصَدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الإِسلامِيَةِ، الْكُلُّ مُطَالَبٌ بِمُحَارَبَتِهِ وَالتَّصَدِّي لَهُ، وَالْكُلُّ مُحَاسَبٌ عَنْهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِمَن فَرَّطَ وَأَهْمَلَ فِي مُوَاجَهَتِهِ أَوْ اسْتَبَاحَهُ بِجَمِيعِ صُورِهِ وَأَشْكَالِهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33)، وَالتَّشَدُّدُ دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ ، وَوبَاءٌ خُلْقِيٌّ كَبِيرٌ مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلاكِهَا ، وَ مَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا ، فَهُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ عَدَاءٍ وَيَنْبُوعُ كُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ ، وَالتَّشَدُّدُ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ الإِنسَانِ ، مَدْخَلٌ كَبِيرٌ لِلشَّيْطَانِ ، مُدَمِّرٌ لِلْقَلْبِ وَالأَرْكَانِ ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَحِبَّةِ وَالإِخْوَةِ ، يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ : الأَمْنَ وَالْأَمَانَ ، وَيُدْخِلُهُ النَّارَ ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ الْجَنَّانِ ، فَالبُعْدُ عَنْهُ خَيْرٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . لَذَا حَذَّرَ رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ وَنَبِيُّنَا ﷺ فِي سُنَّتِهِ مِنَ الْغُلُّوِّ وَالتَّشَدُّدِ عُمُومًا، وَعَنِ الْغُلُّوِّ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ خُصُوصًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) {[المَائدةِ:171]}..

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُّوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُّوُّ فِي الدِّينِ)). وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ التَّشَدُّدِ عُمُومًا فَقَالَ: لَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ].

وَكَيْفَ لا؟
وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ خَيْرُ عِلاجٍ لِكُلِّ فِكْرٍ مُنْحَرِفٍ ضَالٍّ ، عِلاجٌ لِلْتَّشَدُّدِ وَالْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَعِلاجٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالتَّسَاهُلِ ، فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَنْهَجُ حَيَاةٍ وَدُسْتُورٌ لِلْبَشَرِيَّةِ كُلَّهَا فَمَنْ اتَّبَعَ مَنْهَجَ اللَّهِ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ مَنْهَجِ اللَّهِ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا. ((فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123- 124] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- فِي الْآيَةِ: تَكَلَّفَ اللَّهُ لِمَنِ اتَّبَعَ هُدَى اللَّهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ.

لذا قالَ اللهُ جلَّ وعلا: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ))[الأنفال:22-23 وَهذا الغُلُوُّ وَالتَّشَدُّدُ يَرْجِعُ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَعَدِيدَةٍ مِنْهَا عَلَى سَبيلِ المِثَالِ لَا الحَصْرِ: عَدَمُ انْتِهَاجِ نَهْجِ العُلَمَاءِ فِي الفَهْمِ الصَّحِيحِ عَنْ اللَّهِ جَلَّ وَعَلاَ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: ٤٤]؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَرِّي الدِّقَّةِ فِي الفَهْمِ عَنْ اللَّهِ جَلَّ وَعَلاَ، فَسُوءُ الفَهْمِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلاَكٌ وَدِمَارٌ.

ومنها: عَدمُ سُؤالِ العُلَماءِ الرَّاسِخِينَ عَنِ أُمورِ الدِّينِ، وعَدمٌ رَدِّ الأُمُورِ المُتَنَازِعِ فِيهَا وَالْخَفِيَّةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ، قالَ اللهٌ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: ٤٣]قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النِّسَاءِ: ٨٣]

ومنها: الْجُرْأَةُ عَلَى الْكَلَامِ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، خَاصَّةَ التَّجَرُّؤِ عَلَى الْفَتْيَا دُونَ تَحْصِيلِ مَا تَتَطَلَّبُهُ مِنْ تَمَكُّنٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ آثِمٌ، فَقَالَ: «مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» [رواه أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ].

وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ …».وكيف لا ؟ الفِكْرُ الْمُتَشَدِّدُ إنْسِلَاخٌ عَنْ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَخَرْقٌ لِفِطْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الرُّومِ: ٣٠]، ،

وعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرَّامِي» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ].وَلَا رَيْبَ كَذَلِكَ أَنَّهُ يُمَثِّلُ أَزْمَةً وَجُمْلَةً مِنَ الْمَخَاطِرِ لَا عَلَى الْفَرْدِ فَحَسْبُ، بَلْ تَتَجَاوَزُهُ لِتَنَالَ الْمُجْتَمَعَ بِأَسْرِهِ.

فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ التَّشَدُّدِ وَخَطَرِهِ، الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ، الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الأفْكَارِ الْهَدَّامَةِ وَالطَّائِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي بِصَاحِبِهَا إِلَى الخَزْيِ وَالعَارِ وَالهَلاَكِ وَالدُّمَارِ.

إلهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ أَهْلًا *** وَلاَ أَقْوَى عَلَى النَّارِ الْجَحِيمِ

فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَاغْفِرْ ذُنُوبِي *** فَإِنَّكَ غَافِرُ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ

وَعَامِلْنِي مُعَامَلَةً الْكَرِيمِ *** وَثَبِّتْنِي عَلَى النَّهْجِ الْقَوِيمِ

وأرْجِئُ بَقِيَّةً الحَدِيثِ إِلَى مَا بَعْدَ جَلْسَةِ الاستِرَاحَةِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ. الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ وَبِسْمِ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وَبَعْدُ

ثَالِثًا وَأَخِيرًا: التَّعَامُلُ مَعَ السُّيَّاحِ بِأَدَبٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: السِّيَاحَةُ تُعَدُّ مِنَ الْقِطَاعَاتِ الْحَيَوِيَّةِ الَّتِي تَشَكِّلُ دَوْرًا مُهِمًّا فِي التَّنْمِيَةِ الْاِقْتِصَادِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ لِأَيِّ مُجْتَمَعٍ. وَلِمِصْرِنَا الْحَبِيبَةَ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، لَذا كان لَزامًا عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَدَّبَ مَعَ السُّيَّاحِ بَآدَابِ الْإِسْلَامِ وَأَنْ نَتَخَلَّقَ مَعَهُمْ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ فَالسَّائِحُ مُسْتَأْمِنٌ

وَكَيْفَ لَا؟
والْمُسْلِمُ الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي يُعَامِلُ النَّاسَ جَمِيعًا مُعَامَلَةً حَسَنَةً، مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: ٨٣]، وَكَمَا أَرْشَدَ إِلَى ذَٰلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: التَّقْوَى، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَسُئِلَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟ قَالَ: الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ، وَالْفَرْجُ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» [رواه أحمد].

والْمُسْلِمُ الصَّادِقُ هُوَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» [رواه النسائي، وأحمد.

وَهَذَا الْمَبْدَأُ يُنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ الْبَشَرِ، بِمَنْ فِيهِمُ الزُّوَّارُ وَالسِّيَّاحُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا فِي دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَمُسْتَأْمِنِينَ؟ وَلْيَحْذَرِ الْمَسِيءُ لِلْسُّيَّاحِ أَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصِيمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ، مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [رواه أبو داود]. لَيْسَ هَذَا فَحَسَبَ بَلْ مِن تَجَرَّأَ عَلَى قَتْلِ سَائِحٍ بَرَأَ مِنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ – مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا))

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)) وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّ الْإِسْلَامِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِكْرَامَ الضَّيْفِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ((متفق عليه.

فالتَّعَامُلُ غَيْرُ اللَّائِقِ مَعَ السُّيَّاحِ يُمَثِّلُ ظَاهِرَةً سَلْبِيَّةً تَضُرُّ بِسُمُعَةِ الْمُجْتَمَعِ وَتُؤَدِّي إِلَى تَرَاجُعِ السِّيَاحَةِ، وَتَكْبُدُ الْاقْتِصَادَ خَسَائِرَ كَبِيرَةً. فَالتَّعامُلُ غَيْرُ اللَّائِقِ مَعَ السُّيُوحِ دَلِيلٌ عَلَى انْعِدَامِ الوَطَنِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ: الانْتِمَاءُ لِلْوَطَنِ لَا يَكُونُ بِالشِّعَارَاتِ الرَّنَّانَةِ، وَلَا الْعِبَارَاتِ الْفَضَافَةِ الْجَوْفَاءِ، وَلَكِنْ بِالْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَبَذْلِ الْغَالِيِ وَالنَّفِيسِ حَتَّى تَظَلَّ رَايَتُهُ عَالِيَةً خَفَّاقَةً، وَالتَّعامُلُ السيئُ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ مَعَدَّلَاتِ الْبَطَالَةِ، وَتَرَاجُعِ الدَّخْلِ الْقَوْمِيِّ، وَزَعْزَعَةِ الاسْتِقْرَارِ وَالثِّقَةِ فِي التَّعامُلِ مَعَ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ. فَإِيَّاكَ وَالْغَدْرَ بِالسِّيَاحِ إِيَّاكَ وَالْخِيَانَةَ بِالسِّيَاحِ إِيَّاكَ وَالْغَشَّ بِالسِّيَاحِ إِيَّاكَ وَالْكَذِبَ عَلَى السِّيَاحِ فَكُلُّ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ يُعْطِي انْطِبَاعًا سَيِّئًا عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبَلَدِ، وَيُقَلِّلُ مِنْ جَاذِبِيَّتِهَا السِّيَاحِيَّةِ….. وَمِصْرُنَا أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا يَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا.

وَمِصْرُ الْكِنَانَةِ مَا هَانَتْ عَلَى أَحَدٍ*** اللَّهُ يَحْرُسُهَا عَطْفًا وَيَرْعَاهَا

نَدْعُوكَ يَا رَبَّ أَنْ تَحْمِيَ مَرَابِعَهَا ****فَالشَّمْسُ عَيْنٌ لَهَا وَاللَّيْلُ نَجْوَاهَا

حَفِظَ اللّهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا مِن كَيْدِ الكَائِدِينَ، وَحِقْدِ الحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الـمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الـمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الـمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الخَائِنِينَ.