الفكر الوهابي بين محاضن التنشئة ومعركة الوعي
28 سبتمبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
الحمد لله الذي ارتضى لنا دين الوسطية والرحمة، وجعل أمة الإسلام أمة الاعتدال والاتزان، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مدخل تمهيدي
لقد وُلد الفكر الوهابي في بيئات مغلقة، فالتقط الأطفال والفتيان والشباب في سنٍّ مبكرة، عبر دور الحضانة، ومكاتب التحفيظ، والزوايا، والمساجد، والمعاهد والمدارس، بل حتى من خلال دوائر الأسرة والجيرة، ثم غذّته الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي.
فتحوّل هذا الفكر، الذي ارتدى زيفًا ثوب الدين، إلى قوة هادمة للعقول، مفسدة للفِطر، قاتلة للروح الإنسانية، حتى غدا أتباعه عبئًا على ذواتهم وأسرهم وأوطانهم، بل وعلى الأمة الإسلامية جمعاء.
ولا ريب أن الفكر الوهابي مثّل خلال القرنين الأخيرين أخطر أزمة فكرية واجهتها الأمة، إذ استقطب أبناءها في مرحلة التكوين، عبر مؤسسات ظاهرها العبادة، وجوهرها التشدد والانغلاق، فأنتج صورة مشوّهة عن الدين وأهله.
أولًا: آليات صناعة الفكر المتشدد
. التلقين المبكر: إذ يُغذّى الناشئة بمفاهيم التكفير والتبديع وإقصاء الآخرين.
. العزلة عن المجتمع: بإقناع الشباب أن مخالطة الناس تفسد الدين، وأن النجاة لا تكون إلا بالانفصال.
. تشويه مفهوم الوطن: من خلال ترسيخ فهم سقيم للولاء والبراء، حتى صار الانتماء للوطن مذمّة في أعينهم.
. خطاب التخويف والوعيد: إذ يعيش الشاب في ظل رعب دائم من النار، دون توازن بين الخوف والرجاء.
ثانيًا: الآثار المدمّرة على الفرد والمجتمع
على الفرد: ينشأ ضيّق الأفق، حادّ النظر، لا يرى إلا الأبيض أو الأسود، بعيدًا عن فقه المقاصد والمآلات.
على الأسرة: ينقلب على أهله، متهمًا إياهم بالتقصير أو الابتداع، فتتصدع الروابط الأسرية.
على المجتمع: تُبث الكراهية ويزرع الشقاق بين المسلمين، وتُشوّه صورة الإسلام في نظر غير المسلمين.
على الأمة: تُستنزف قواها الفكرية والحضارية في معارك جانبية، بدل البناء والإعمار.
وقد حذّر القرآن من الغلو فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [النساء: 171]
فكيف إذا كان الغلو داخل جسد الأمة نفسها؟
ثالثًا: الجذور الفكرية المغلوطة
تحريف النصوص عن مقاصدها: اقتطاعها من سياقها وحملها ما لا تحتمل.
إقصاء التراث الوسطي: إذ أنكرت الوهابية دور الأشاعرة والماتريدية والصوفية السنية الذين حموا الدين عبر القرون.
إهمال العقل والواقع: فلا مكان عندهم للاجتهاد أو قراءة العصر، بل تكرارٌ جامد لظروف وأحوال مضت.
رابعًا: معركة الوعي والحلول العملية
إن مواجهة الفكر الوهابي لا تُختزل في الإدانة، بل تستوجب بدائل جادّة، منها:
★. إصلاح التعليم الديني
إدخال مناهج مقاصدية تُظهر سماحة الإسلام.
تدريب المعلمين على الحوار بدل التلقين.
★. تعزيز دور الأزهر والمؤسسات الوسطية
دعم العلماء الربانيين الذين يجمعون بين العلم والرحمة.
نشر الفتاوى والبرامج بلغة عصرية قريبة من الشباب.
★. تمكين الأسرة
توعية الآباء بخطر ترك أبنائهم فريسة للمناهج المتشددة.
ترسيخ ثقافة الحوار الأسري المفتوح.
★. الإعلام البديل
إنتاج محتوى هادف يعالج قضايا الشباب بواقعية.
الرد على الشبهات عبر المنصات ذاتها التي يستغلها المتشددون.
★. برامج إعادة التأهيل
إنشاء مراكز متخصصة تجمع بين العلاج النفسي والتصحيح الفكري والتربية الروحية.
★التأكيد على الانتماء الوطني
غرس قناعة أن خدمة الوطن عبادة، وأن حماية المجتمع من الفتن جزء من الدين.
استحضار حديث النبي ﷺ: “اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد” (رواه البخاري).
خامسًا: نحو رؤية شاملة
إن أخطر ما يهدد الأمة اليوم ليس سلاح العدو، بل الفكر المنحرف. فصاحب الفكرة المضللة أشد خطرًا من حامل البندقية. ومن هنا فإن معركة الوعي هي معركة هذا العصر، ولا تُخاض إلا بعلم راسخ، وخطاب مستنير، وحكمة تحتضن عقول الشباب وقلوبهم.
خاتمة
لقد آن أوان تحمّل المسؤولية الفكرية والشرعية، لإنقاذ أبنائنا من أسر الفكر الوهابي المتشدد، وردّهم إلى رحاب الإسلام الوسطي الذي بعث به النبي ﷺ رحمة للعالمين. والأمة قادرة – بإذن الله – على كسب هذه المعركة، إذا توحّدت جهودها، وتكاتفت مؤسساتها، واستلهمت من تراثها الأزهري الأصيل قول الله تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].