جدران من ورق
27 سبتمبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
لم يعد حال الأمة العربية اليوم بحاجة إلى توصيف طويل أو بحث عميق، فالمشهد صار واضحًا ومؤلمًا في آن واحد: تشرذم وتفكك، وانشغال بخلافات جانبية، وصمت يكاد يصل إلى حد العجز التام، بينما العدو الصهيوني يتصرف كما يشاء، يقصف أي بلد عربي دون رادع، ويهدد ويبتز متى شاء. أمة كانت يومًا ما قادرة على أن تهز أركان العالم بقرار موحد، باتت اليوم كالجدران من ورق، تنهار أمام أبسط العواصف، وتتهاوى مع أول اختبار حقيقي.
في قلب هذا الواقع المظلم، تقف مصر كالصخرة، دولة ذات تاريخ طويل من التضحيات، حاملة لواء الدفاع عن قضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. منذ حرب 1948 مرورًا بعدوان 1956، ثم نكسة 1967، وصولًا إلى نصر أكتوبر 1973، ظلت مصر هي الحصن الذي يلتف حوله العرب في ساعة المحن. لم تبخل بدماء أبنائها ولا بخيراتها، وكانت دومًا تعلن أن أمن الأمة كلٌّ لا يتجزأ، وأن العدو واحد مهما تعددت ساحات المواجهة.
ومع ذلك، فإن مصر اليوم تواجه المشهد ذاته الذي واجهته مرارًا: تقف وحدها تقريبًا في مواجهة التهديدات الصهيونية، بينما عواصم عربية تلتزم الصمت أو تكتفي ببيانات شجب لا تُغني ولا تُسمن. الأخطر من ذلك أن بعض هذه العواصم تمد يدها سرًا وعلنًا للعدو، وكأنها تضعف الصف العربي من الداخل.
لقد أثار الحشود الكبيرة للجيش المصري في سيناء رعب الكيان الصهيوني، حتى أن “النتن ياهو” سارع إلى واشنطن طالبًا منها التدخل الفوري ضد مصر، زاعمًا أن هذه القوات تهدد أمن كيانه. هذا الخوف ليس وليد اللحظة، بل هو اعتراف ضمني بقدرة الجيش المصري على قلب موازين القوى إذا أراد، فهو الجيش الأكبر في المنطقة، وصاحب العقيدة القتالية التي لا تعرف الخنوع ولا الاستسلام. ولو كان العرب جميعًا قد اصطفوا خلف مصر كما ينبغي، لما تجرأ العدو يومًا على أي شبر من أرض العرب.
أما جيش الاحتلال، فقد أثبت مرارًا أنه لا يعرف شرفًا ولا إنسانية. هو جيش من المرتزقة والمجرمين، يستبيح الدماء بلا وازع، يتفنن في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، ويهدم البيوت على ساكنيها، ويمارس أبشع صور القهر والتعذيب في السجون والمعتقلات. ما حدث في غزة من قصف للمستشفيات والمدارس، وما يجري في لبنان وسوريا من ضربات متكررة، يوضح أن هذا الجيش ليس جيشًا بالمعنى العسكري، بل عصابة مسلحة تمارس إرهاب الدولة برعاية الغرب.
ولم يكن هذا التمادي ليحدث لولا الغطاء الغربي المطلق، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ نشأة الكيان الصهيوني، وأمريكا تضعه تحت جناحها، تمده بالسلاح والمال، وتدافع عن جرائمه في مجلس الأمن، وتُفشل أي قرار يدينه، وكأنها شريك مباشر في كل جريمة تُرتكب بحق أبناء الأمة. أوروبا أيضًا، رغم بعض الأصوات الخافتة، ما زالت تسير على النهج نفسه، متذرعة بشعارات زائفة حول “حق الدفاع عن النفس”، لتبرر قتل الأطفال وتشريد الأسر. وهكذا يجد العدو نفسه في حماية كاملة، يجمع بين القوة العسكرية والدعم السياسي والإعلامي، ليضرب دون حساب.
وليس الغرب وحده في الصورة؛ فالمشهد الدولي اليوم أكثر تعقيدًا. روسيا والصين، ورغم مواقفهما التي تُظهر معارضة للهيمنة الأمريكية، ما زالتا تلعبان أدوارًا مزدوجة. ففي مجلس الأمن، كثيرًا ما وقفتا ضد مشاريع القرارات الأمريكية التي تمنح الغطاء للعدو، وأكدتا ضرورة الحل العادل للقضية الفلسطينية. لكن في المقابل، تبقى هذه المواقف محكومة بحسابات سياسية واقتصادية ومصالح متشابكة، تجعلها أقرب إلى أوراق ضغط دولية أكثر منها التزامًا حقيقيًا بالدفاع عن العرب. ومع ذلك، فإن مجرد وجود أصوات دولية رافضة للانحياز الأمريكي يفتح نافذة أمل في كسر احتكار الغرب لملف المنطقة.
العار كل العار أن يبقى الموقف العربي الرسمي عند حدود الكلمات، بينما الشعوب تغلي غضبًا وتخرج إلى الشوارع منددة بجرائم الاحتلال. الشارع العربي كان ولا يزال يصرخ نصرة لفلسطين ورفضًا للصهيونية، لكن هذه الأصوات الحرة تُقابل بجدران صمت من الحكومات، وكأنها لا تسمع ولا ترى.
إن ما تحتاجه الأمة اليوم ليس مجرد اجتماع طارئ أو بيان مطوّل، بل إرادة صادقة تعيد بناء الصف العربي. مصر وحدها تستطيع أن تصمد، لكن مصر ومعها الأمة كلها تستطيع أن تنتصر. والفرق بين الخيارين هو الفرق بين جدار من ورق، وجدار من فولاذ يحمي الأرض والكرامة.
إن المشهد العربي الراهن لا يترك مجالًا للترف الفكري أو الحسابات الضيقة، فالعدو لا ينتظر، والأرض العربية لا تحتمل المزيد من الخيانات أو الصمت. ما لم تتوحد الأمة خلف مصر، فإن القادم سيكون أكثر خطورة، وسنجد أنفسنا أمام واقع يكتب فيه العدو مستقبل المنطقة كما يشاء. لقد جُرّبت المساومات، وجُرّبت التنازلات، وجُرّبت البيانات، ولم يأتِ منها إلا المزيد من الدماء والدمار.
إن ساعة الحقيقة قد دقت، وصرخة الضمير باتت واجبة: إما أن ننهض جميعًا ونبني جبهة عربية موحدة، تجعل من الأمة قوة لا يجرؤ العدو على اختبارها، أو نظل كما نحن، جدرانًا من ورق، تنهار كل يوم تحت صواريخ الغدر الصهيوني. لا خيار أمام العرب سوى الوحدة خلف مصر، فهي صمام الأمان وقلب الأمة النابض، واليد التي تستطيع أن تقلب موازين القوى.
وليعلم الجميع أن التاريخ لا يرحم المتخاذلين، وأن الأوطان لا يحميها الكلام، وأن الشعوب التي تفرّط في دماء أبنائها ستدفع الثمن غاليًا. فلتكن مصر عنوان الوحدة، ولتكن الأمة جدارًا من فولاذ، حتى نستعيد ما سُلب ونحفظ ما تبقى، وإلا فإننا سنكتب بأيدينا شهادة وفاة أمة كانت يومًا أعظم الأمم.
إن مصر اليوم تقف مستعدة، بجيشها الذي يرعب الأعداء، وشعبها الذي يعرف معنى التضحية، وتاريخها الذي يشهد أنها لا تنكسر. لكن وحدها لن تكفي، فالاتحاد هو السلاح الحقيقي، وإذا التقت قوة مصر مع طاقات الأمة العربية كلها، فلن يجرؤ العدو على رفع رأسه. أما إذا ظللنا متفرقين، نائمين على وسادة الأوهام، فلن نكون أكثر من جدران من ورق، تتهاوى مع أول لمسة من يد عدو خسيس.
إن الولايات المتحدة وأوروبا ومعهما الكيان الغاصب، يظنون أن الأمة انتهت، وأن الشعوب ماتت، لكن التاريخ علّمنا أن العرب حين ينهضون، يغيرون مجرى الأحداث. والتاريخ نفسه سيكتب بمداد من دماء الشهداء أن الأمة، إذا استيقظت، تستطيع أن تكسر القيود، وأن تجعل من جدران الورق قلاعًا من حديد. ومهما طال ليل الغدر، فإن فجر الوحدة قادم لا محالة، لأن الشعوب لا تموت، ولأن الكرامة لا تُشترى، ولأن الحق لا يضيع ما دام وراءه مطالبون.