
بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى
قد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في حسن معاملة الفقراء، إلا أنه في ذات الوقت لم يكن فظاً ولا غليظاً مع الأغنياء والملوك والأمراء بل ينزلهم منازلهم، ويُلَّقبهم بالألقاب التي يحبونها ويُعَظَّمون بها، وظهر هذا في رسائله وكتبه إلى الملوك والأمراء، ففي كتابه إلى هرقل يقول: “من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم…”، وفي كتابه إلى النجاشي يقول: “هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي عظيم الحبشة…”.
وفي كتابه إلى الْمُقَوْقِس يقول: “من محمد عبد الله ورسوله إلى الْمُقَوْقِس عظيم القبط…”.
وفي كتابه إلى كِسرى ملِك فارس يقول: “من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس…”.
وقولنا اليوم عند ذِكر الملوك والأمراء والرؤساء جلالة الملك أو فخامة الرئيس ليس رياءً ولا نفاقاً، وإنما هو التأدب الرفيع الذي فعله النبي صلي الله عليه وسلم وحث عليه وقال: “أَنْزِلُوا الناس منازلهم”، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه”.
وكان من أثر هذا الذوق النبوي البديع ونتائج هذا الخلق المحمدي العالي الرفيع أن أسلم النجاشي، وكاد أن يُسلم هرقل، ورد الْمُقَوْقِس رداً جميلاً مع هدايا للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما أسلوب الفظاظة والغلظة فلا يقبله آحاد الناس فكيف بالملوك والرؤساء؟ قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]، فلا تُقبل هذه الطريقة الجافة في التعامل حتى ولو صدرت من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟
وقال تعالى لموسى وهارون في الترفق في مخاطبة فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 43، 44]أي قولا له قولا لطيفاً خاليا من الغلظة والجفاء؛ رجاء أن يتذكر، فيؤمن ويهتدي، أو يخشى العذاب إن بقى على ظلمه وطغيانه.
وفي إهانة الملوك والتقليل من شأنهم إهانة لبلدانهم وشعوبهم، مما يستجلب ردة فعل عكسية من الإساءة والنفرة والقطيعة بين الدول وبين الشعوب ذاتها، وربما تكون بداية لإشعال الفتن والحروب؛ ولهذا حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذه العواقب الخطيرة، فيقول: “مَنْ أهانَ سُلطانَ اللهِ في الأرضِ أهانَهُ اللهُ”، فإهانة الملوك والأمراء وولاة الأمر والإساءة إليهم حتى ولو كانوا غير مسلمين فيه مخالفة للمنهج القرآني، والهدي النبوي الرشيد، بل كان السلف الصالح يدعون لهم دوما بالتوفيق والسداد، قال الفضيل بن عياض: “لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام، فإن صلاحه صلاح العباد والبلاد”،
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: “وإني لأرى طاعةَ أميرِ المؤمنين في السرِّ والعلانيةِ، وفي عُسري ويُسْرِي، ومَنشطي ومكرهي وأثَرَةٍ عليَّ، وإني لأدعو اللهَ له بالتسديدِ والتوفيقِ في الليلِ والنهارِ”، فالدعاء لولاة الأمور بالصلاح من مقاصد الإسلام وأهدافه، قال صلى الله عليه وسلم: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم”، أي تدعون لهم ويدعون لكم.