الإِنشَادُ الصُّوفِىُّ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ
22 سبتمبر، 2025
شبهات حول قضايا التصوف

من ديوان أهل الذكر لسيدي برهان الدين أبو الإخلاص رضي الله عنه
يقدمها لكم : الشيخ السيد محمد البلبوشي
خويدم الطريقة الإخلاصية – خطيب بوزارة الأوقاف
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فى صَحِيحَيْهِمَا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْشِدُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَواحَةَ :
وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا وَثَبِّتِ الأقدَامَ إِن لَاقَيْنَا
إلَخْ .. إلَخْ ..
رَوَى البُخارِىُّ ، أَنَّ النَّبىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِالْكَلِمَاتِ الأخيرةِ مِنَ الْمَقْطَعِ فَيَقُولُ : ( لَاقَيْنَا .. أَبَيْنَا …) وَكَانَ الصّحابَةُ يُرَدِّدُونَ عَلَيهِ إنشادَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَتَأَمَّلْ وَتَأَمَّلْ!!
وَفِى هَذَا الْحَديثِ وَحْدَهُ غِنَىً وَكِفَايَةٌ أىُّ كِفَايَةٍ ، وإقناعٌ أىُّ إقناعٍ ، فى بَيَانِ جَوَازِ الإنشادِ الْفَرْدِىِّ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ النَّبىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ . والإنشادِ الجَمَاعِىِّ كَمَا كَانَ يُرَدِّدُ عَلَيهِ الصّحابَةُ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الإنشادَ الْفَرْدِىَّ بالتّلحِينِ والإنشادَ الجماعِىَّ بِهِ كِلَيْهِمَا سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُوَ إمامُ الْمُنْشِدِينَ الْمُسْلِمِينَ ، أَفْرَادَاً كَانُوا أَوْ جَمَاعَاتٍ وَلَعَلَّ وِرَاثَةَ هَذَا الْمَقَامِ هى السَّبَبُ فى النّجَاحِ الأكْبَرِ الذى كَانَ يُصَادِفُهُ الْمُنْشِدُونَ الدُّعَاةُ مِنْ أَمْثَالِ ذى النُّونِ المصرىِّ ورَابِعَةِ وأضرابِهِما ، وَمِمَّنْ كَانَ يَدْعُو إِلَى اللهِ بِجهادِهِ وإنشادِهِ ، وَالْحَديثُ الْمَذْكُورُ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ البُخارىِّ وَمُسْلِمٍ . وَهُمَا صَاحِبَا أَصَحِّ كِتَابَيْنِ نَأْخُذُ عَنْهُمَا دَينَنَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ ” عَزَّ وَجَلَّ “. فَالْحَديثُ فى أَعَلَى مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ . وَلَا حاجَةَ بَعْدَهُ إِلَى دَليلٍ فى هَذَا الْبَابِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ رَواحَةَ كَانَ يُغَنِّى حادِيَاً لِلْعِيسِ بَيْنَ يَدَىِ النَّبىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وَقِصَّةُ غِنَائِهِ عِنْدَ مُنْصَـرَفِهِ مِنْ خَيْبَرٍ . وَقَوْلُ النَّبىِّ لَهُ إعجاباً وَتَدْلِيلَاً ” رِفْقَاً بِالْقَوَارِيرِ ” يُرِيدُ بِالْقَوَارِيرِ النِّساءَ الْمُصَاحِبَاتِ لِلرَّكْبِ ، فَإِنَّهُنَّ أَضْعَفُ مِنَ احْتِمَالِ هَزَّاتِ الْبُعْرَانِ وَهى تَنْتَشِـى مأخوذَةً بِجَمَالِ الإنشادِ لَحْنَاً وَصَوتَاً ، كُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ وَثَابِتٌ مَعَهُ غِنَاءُ أَنَسٍ وإنشادُهُ . مِمَّا يَمْنَحُ مَزِيدَاً مِنَ الْقَطْعِ بِسُنِّيَّةِ الإنشادِ الْفَردِىِّ بِحَدِّهِ الشَّرعِىِّ .
وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ تَغَنِّى جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ وإنشادِهِم فى أَثْنَاءِ إقامةِ الْمَسْجِدِ النَّبوِىِّ بِقَولِهِمْ :
اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخرَة فَبَارِكِ الأنصَارَ وَالْمُهَاجِرَة
أَوْ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ ثُمَّ مَا ثَبَتَ مِنَ اسْتِقْبالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالنَّشِيدِ الْمَشْهُورِ ” طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَينَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ “.. إلَخْ .. إلَخْ . ففى هذا وَذَاكَ جَدِيدٌ مِنْ تعزيزِ الدَّليلِ عَلَى سُنِّيَّةِ الإنشادِ الجماعِىِّ شأنِ الإنشادِ الْفردِىِّ سَواءً بِسَواءٍ كِلَاهُمَا سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ أَوْ إقراريَّةٌ !! وَبِجِوَارِ ذَلِكَ مسألةُ جَمَالِ الصَّوْتِ بالتّلحِينِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ فى الصِّحَاحِ مِنْ قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فى التِّلاوَةِ وَقِصَّةِ بَلَالٍ وَأَبِى مَحْذُورَةَ فى الأذَانِ وَقِصَّةِ ابْنِ رَواحَةَ وَأَنَسٍ فى الْحُدَاءِ والإنشادِ ، وَلَا أحسَبُنِى بَعْدَ هَذَا بِحاجةٍ إِلَى تَفْرِيغِ الْكَلاَمِ فى هَذَا الْمَقَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ فى بَابِ [ الإنشادِ وَالسَّمَاعِ ] مِنْ كَلامِ حُكْمِ الشِّعْرِ الصُّوفِىِّ فى الإسلامِ .
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِحُرْمَةِ الشِّعْرِ فى الإسلامِ حَتَّى يُقَالَ : ( إِنَّ تَعَاطِى الصُّوفِيَّةِ لِلشِّعْرِ خُرُوجٌ عَلَى مَبَادِئِ الإسلامِ ). بَلْ إِنَّ قَوْلَ الشِّعْرِ وَسَمَاعَهُ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ مُحَقَّقَةٌ . فَقَدِ اسْتَشْهَدَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالشِّعْرِ وَأَجْرَاهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ . فى مِثْلِ قولِهِ :” أَنَا النَّبِىُّ لَا كَذِبْ . أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ” وَمِثْلِ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ :” إِنْ أَنْتَ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيتَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ مَا لاقَيتَ ” فَلَوْ كَانَ الشِّعْرُ رِجْسَاً مَا أَجرَاهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ النَّبىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَهِ إجازتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَعْبَاً عَلَى شِعْرِهِ بِبُرْدَتِهِ التَّارِيخِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ . ثُمَّ نصبُهُ الْمِنْبَرَ لِحَسَّانَ فى الْمَسْجِدِ لِيُلْقِىَ الشِّعْرَ مِنْ فَوْقِهِ مَعَ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ ، وتأييدِهِ وتشجيعِهِ لَهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَقولُهُ :” إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةً ” إلَخْ .. إلَخْ . فَكُلُّ ذَلِكَ دَليلٌ عَلَى سُنِّيَّةِ سَمَاعِ الشِّعْرِ ، وَقولُهُ : “وَالشِّعْرُ كَلامٌ مِنَ الْكَلامِ حَسَنَهُ حَسَنٌ . وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. “!!
أَمَّا الآيةُ :﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ ﴾ فَفِيهَا التَّندِيدُ بِنَوْعٍ خاصٍّ مِنَ الشُّعَرَاءِ الآثمِينَ ، الَّذِينَ يُنَاوِءُونَ دَعْوَةَ اللَّهِ . وَلَيْسَ فِيهَا أىُّ مَسَاسٍ بِالشِّعْرِ نَفْسِهِ ، وَبِجِوَارِ التنديدِ بهَؤُلَاءِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ فى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مَالَا يَفْعَلُونَ ، فِيهَا التمجيدُ بالاستِثنَاءِ لِلشُّعَرَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرَاً ، مُدَافِعِينَ عَنْ دَعْوَتِهِ فى شِعْرِهِمْ ، وَانْتَصَـرُوا لِدِينِهِمْ وَلِرَسُولِهِمْ بِشِعْرِهِمْ ذَلِكَ ، مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ، مِنَ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِ الشُّعَرَاءِ . وَبِجِوَارِ التنديدِ والتمجيدِ ، تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ ، يَرْفَعُ رُتْبَةَ التنديدِ والتمجيدِ فى قولِهِ تَعَالَى :﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ..﴾ إلَخْ هَذَا هُوَ صَرِيحُ الآيةِ : تَنْدِيدٌ بِالشُّعَرَاءِ الَّذِينَ لَا تُقَيِّدُهُمْ قِيَمٌ وَلَا مُثُلٌ وَلَا مَبَادِئٌ وَلَا دَعَوَاتٌ ، وَتَمْجيدٌ لِلسَّالِكِينَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ . حَتَّى لَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : (إِنَّ الْمُرَادَ بِالشُّعَرَاءِ فى هَذِهِ الآيةِ هُمُ الْكُفَّارُ بالذَّاتِ وَهُوَ رَأْىُ عَلِىٍّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَبْدِ الرّحمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٍ . أَمَّا قولُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ومَايَنْبَغِى لَهُ ﴾ فَلَيْسَ فِيهِ الْمِسَاسُ بِالشِّعْرِ كَقِيمَةٍ أَدَبِيَّةٍ أَوْ فَنِّيَّةٍ بَلْ فِيهِ ارْتِفَاعٌ بِهِ ، يَجْعَلُ مُستَوَاهُ أعْلَى مُستَوَى تَسْتَطِيعُهُ الْبَشَرِيَّةُ ، ثُمَّ يَجْعَلُ القُرآنَ فَوْقَ هَذَا الْمُسْتَوى الأعْلَى
حَيْثُ ﴿ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ وَلَيْسَ سَواءً مَا يَصْعَدُ مِنَ الأرضِ ، وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ، وَمَا يُقَالُ هُنَا ، يُقَالُ فى قولِهِ تَعَالَى :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ﴾ وَنَفْىُ الشَّاعِريَّةِ عَنِ النَّبِىِّ هُنَا ضَرُورِيَّةٌ لإثباتِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ، عَلَى عَكْسِ مَا يَقُولُهُ الشَّاعِرُ فَإِنَّهُ مِنْ أَثَرِ الْعَبْقَرِيَّةِ وَالذُّكاءِ وَالتَّوْفِيقِ . وَفَرْقٌ هَائِلٌ بَيْنَ الْعَبْقَرِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ ، وَأَظُنُّ الأمرَ قَدْ وَضَحَ بَعْدُ . فَسلَامٌ عَلَينَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ .