حطبة بعنوان ( اليقين ) للشيخ ياسر عبدالبديع 

حطبة بعنوان ( اليقين ) للشيخ ياسر عبدالبديع 

بتاريخ/4 من ربيع الأول1447ه‍
26 من سبتمبر 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

اليقين

الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ : مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ

وَإِذَا كُنَّا سَنَتَحَدَّثُ عَنِ الْيَقِينِ فَلَا بُدَّ أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ، لَفْظُ الْيَقِينِ هُوَ الْجَازِمُ بِعِلْمٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَاسْتِقْرَارِ نَفْسٍ، بِكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، يَقِينًا يَدْفَعُ الْمَرْءَ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، مَعَ حِرْصٍ شَدِيدٍ عَلَى إِخْلَاصِ النِّيَّةِ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَالْيَقِينُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ إِذْ هُوَ الْعِلْمُ الْجَازِمُ بِإِيمَانٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، يَقِينًا يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: «وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ، وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ».

وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، فَقَالَ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:
﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ (الذَّارِيَاتِ: ٢٠).

وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَامِلِينَ، فَقَالَ:
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الْبَقَرَةِ: ٤ – ٥).

فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ رُوحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقيَّةِ.

وَلِهَذَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الْيَقِينُ هُوَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). وَمُرَادُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيَانُ عِظَمِ هَذِهِ الشُّعْبَةِ، وَأَنَّهَا مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ هَذِهِ الشُّعْبَةُ أَوِ الدَّرَجَةُ؛ إِذْ إِنَّ الْيَقِينَ جُزْءٌ عَظِيمٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ هُوَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ، بَلِ الْإِيمَانُ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: «فَالْإِيمَانُ قَلْبُ الْإِسْلَامِ وَلُبُّهُ، وَالْيَقِينُ قَلْبُ الْإِيمَانِ وَلُبُّهُ».

وَلِعِظَمِ مَنْزِلَةِ الْيَقِينِ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْمُتَصِفِينَ بِهِ، فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (الْبَقَرَةِ: ٤)،
وَقَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (النَّمْلِ: ٣، لُقْمَانَ: ٤).

وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، كَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَدَحَ أَهْلَ الْيَقِينِ، وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِطَلَبِهِ؛ إِذْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:
«مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» (أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ).

وَقَالَ أَيْضًا:
«وَسَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْمُعَافَاةِ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

وَفِي الْمُقَابِلِ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ بِنَقِيضِ الْيَقِينِ؛ إِذْ وَصَفَهُمْ بِالشَّكِّ وَالرَّيْبِ وَالتَّرَدُّدِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ (فُصِّلَتْ: ٤٥).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ (الشُّورَى: ١٤).

وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ:
﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ (التَّوْبَةِ: ٤٥).

**وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْعَظِيمَةِ لِلْيَقِينِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيمَانًا مَعَ قُوَّةِ إِيمَانِهِ ـ فَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى رَسُولِنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ـ رَفَعَهُ وَرَقَّاهُ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، فَأَرَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ﴾ (الْأَنْعَامِ: ٧٥).

وَإِنَّ الْيَقِينَ مَقَامٌ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَخَلَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ خِلَالِ الْعَارِفِينَ.
يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْيَقِينِ:
«هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ، وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ، وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السَّجْدَةِ: ٢٤).

وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، فَقَالَ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:
﴿وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰتٞ لِّلۡمُوقِنِينَ﴾ (الذَّارِيَاتِ: ٢٠).

وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ:
﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥﴾ (الْبَقَرَةِ: ٤ – ٥).

وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَيۡبَ فِيهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَيۡقِنِينَ﴾ (الْجَاثِيَةِ: ٣٢).

فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ رُوحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَهُوَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ».

اَلتَّوَكُّلُ ثَمَرَةُ اَلْيَقِينِ:

وَاَلتَّوَكُّلُ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ، وَلِهَذَا حَسُنَ اقْتِرَانُ اَلْهُدَى بِهِ؛ قَالَ تَعَالَى:
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ﴾ (اَلنَّمۡلِ: ٧٩).
فَاَلْحَقُّ هُوَ اَلْيَقِينُ.

وَقَالَتْ رُسُلُ اللَّهِ:
﴿وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا﴾ (إِبۡرَاهِيمَ: ١٢).

وَمَتَى وَصَلَ اَلْيَقِينُ إِلَى اَلْقَلْبِ امْتَلَأَ نُورًا وَإِشْرَاقًا، وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وَشَكٍّ، وَسُخْطٍ، وَهَمٍّ، وَغَمٍّ، فَامْتَلَأَ مَحَبَّةً لِلَّهِ، وَخَوْفًا مِنْهُ، وَرِضًا بِهِ، وَشُكْرًا لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ؛ فَهُوَ مَادَّةُ جَمِيعِ اَلْمَقَامَاتِ وَالْحَامِلُ لَهَا.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بِاَلزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي اَلزُّهْدِ).

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بِالْيَقِينِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُه بالبخل والأمل

اَلرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ رَبَّهُ اَلْيَقِينَ:

فَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ اَلدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ:

«اَللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اَلْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ اَلدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ اَلْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ اَلدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا» (أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ ).

أَمْثِلَةٌ عَطِرَةٌ عَلَى عُلُوِّ اَلْهِمَّةِ فِي اَلْيَقِينِ:

إِنَّ مَنْ يُقَلِّبُ صَفَحَاتِ اَلتَّارِيخِ يَجِدْهُ يَزْخَرُ بِأَمْثِلَةٍ عَطِرَةٍ عَلَى عُلُوِّ اَلْهِمَّةِ فِي اَلْيَقِينِ وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَمِنْهَا:

خَلِيلُ اَلرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ كَانَ خُلُقُهُ اَلْيَقِينُ:
فَكُلُّ مَوَاقِفِهِ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ كَانَ خُلُقُهُ اَلْيَقِينُ:

﴿وَحَاجَّهُۥ قَوْمُهُۥ قَالَ أَتُحَآجُّوٓنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْـٔٗا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۝٨٠ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنٗا فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝٨١ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوٓا إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾
(اَلْأَنْعَامِ: ٨٠‒٨٢).

نَعَمْ، كَيْفَ يَخَافُ مَنْ عِنْدَهُ هَذَا اَلْيَقِينُ؟!

وَيَتَجَلَّى يَقِينُهُ وَتَوَكُّلُهُ وَثِقَتُهُ بِرَبِّهِ حِينَـمَا أَلْقَوْهُ فِي اَلنَّارِ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ يَقُولُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَيُجِيبُهُ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، ثُمَّ يُرَدِّدُ نَشِيدَهُ اَلْعُلْوِيَّ: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ».

إِنَّ كُلَّ مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ اَلْخَلِيلِ مَلْؤُهُ اَلْيَقِينُ.. إِلْقَاءُ طِفْلِهِ اَلرَّضِيعِ وَزَوْجِهِ فِي اَلْبَرِّيَّةِ، هَمُّهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ.. فَصَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

اَلرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. اَلْقِمَّةُ فِي عُلُوِّ اَلْهِمَّةِ:

وَمَنْ كَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَـمَا يَشْتَدُّ اَلْكَرْبُ يَبْدُو يَقِينُهُ مِثَالًا يُحْتَذَى، وَلَا كَرْبَ أَشَدُّ مِنْ سَاعَةِ اَلْهِجْرَةِ:

﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفْلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾
(اَلتَّوْبَةِ: ٤٠).

حِينَ يَقُولُ لَهُ اَلصِّدِّيقُ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَدِّئُ مِنْ رَوْعِهِ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟».

ثُمَّ اِنْظُرْ إِلَى يَقِينِهِ بِرَبِّهِ بَعْدَ أَنْ جَرَى لَهُ مَا يُشِيبُ لِذِكْرِهِ اَلْوِلْدَانَ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى اَلطَّائِفِ، وَهُوَ يَقُولُ لِمَلَكِ اَلْجِبَالِ اَلَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِ اَلاِنْتِقَامَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

اَلْعُنْصُرُ اَلثَّانِي: صِفَاتُ أَهْلِ اَلْيَقِينِ

وَأَهْلُ اَلْيَقِينِ هُمْ أَهْلُ اَلْإِيمَانِ وَأَهْلُ اَلتَّمَيُّزِ فِي اَلْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَهُمْ صِفَاتٌ تَتَبَايَنُ وَتَتَمَايَزُ عَنْ صِفَاتِ بَاقِي اَلنَّاسِ، فَمِنْ صِفَاتِهِمْ:

١- أَنَّهُمْ هُمُ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَلْغَيْبِ:
قَالَ تَعَالَى:

﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ ۝٣ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْأٓخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝٤ أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمْۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ۝٥﴾
(اَلبَقَرَةِ: ٣‒٥).

فَأَهْلُ اَلْيَقِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لِذَا فَإِنَّ اَلْحَيَاةَ بِمَا فِيهَا وَبِمَنْ فِيهَا تَهُونُ فِي أَعْيُنِهِمْ أَمَامَ مَرْضَاةِ اَللَّهِ تَعَالَى وَانْتِظَارِ اَلْجَزَاءِ اَلْأَوْفَى مِنْهُ سُبْحَانَهُ.

وَلَقَدْ تَعَلَّمَ اَلصَّحَابَةُ اَلْكِرَامُ هَذَا اَلْيَقِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحِينَـمَا اِنْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى سَبَقُوا اَلْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ اَلْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ».

فَدَنَا اَلْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ».

قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ اَلْحُمَامِ اَلْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: بَخٍ بَخٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟». قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.

قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا».

قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ.

قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ اَلتَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
(أَخْرَجَهُ أَحْمَد).

٢- أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلَّذِينَ يُوقِنُونَ بِأَنَّ ٱلرِّزۡقَ بِيَدِ ٱللَّهِ وَحۡدَهُ :

وَمِنۡ صِفَاتِ أَهۡلِ ٱلۡيَقِينِ ٱلتَّيَقُّنُ ٱلۡكَامِلُ بِأَنَّ ٱلرِّزۡقَ لَيۡسَ بِيَدِ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ بِيَدِ ٱللَّهِ تَعَالَى وَحۡدَهُ ، قَالَ سُبۡحَانَهُ :

﴿ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰتٞ لِّلۡمُوقِنِينَ ‎﴿٢٠﴾‏ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ‎﴿٢١﴾‏ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ ‎﴿٢٢﴾‏ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ ‎﴿٢٣﴾‏ ﴾ [ٱلذَّارِيَات].

لِذَا تَجِدُهُمۡ يُنفِقُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا يَخۡشَوۡنَ ٱلۡفَقۡرَ وَٱلۡإِقۡلَالَ ، وَيُعۡطُونَ وَيَبۡذُلُونَ عَنۡ إِيمَانٖ وَيَقِينٖ.

رُوِيَ عَنۡ حَيۡوَةَ بۡنِ شُرَيۡحٍ ٱلتَّجِيبِيِّ، ٱلۡفَقِيهِ، ٱلۡمُحَدِّثِ، ٱلزَّاهِدِ، وَهُوَ مِن رُوَاةِ ٱلۡحَدِيثِ ٱلثِّقَاتِ، أَنَّهُ كَانَ يَأۡخُذُ عَطَاءَهُ فِي ٱلسَّنَةِ سِتِّينَ دِينَارٗا، فَلَا يُفَارِقُ ذَٰلِكَ ٱلۡمَكَانَ ٱلَّذِي أَخَذَ فِيهِ ٱلۡعَطَاءَ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهَا جَمِيعٗا، فَكَانَ إِذَا جَآءَ إِلَى مَنزِلِهِ وَجَدَ ٱلسِّتِّينَ دِينَارٗا، تَحۡتَ فِرَاشِهِ. فَبَلَغَ ذَٰلِكَ ٱبۡنَ عَمّٖ لَهُ، فَتَصَدَّقَ بِعَطَائِهِ جَمِيعٗا يُرِيدُ أَن يَفۡعَلَ مِثۡلَ حَيۡوَةَ، وَجَآءَ إِلَى تَحۡتِ فِرَاشِهِ فَلَمۡ يَجِدۡ شَيۡـٔٗا! فَذَهَبَ إِلَى حَيۡوَةَ وَقَالَ: أَنَا تَصَدَّقۡتُ بِكُلِّ عَطَائِي، وَلَمۡ أَجِدۡ تَحۡتَ فِرَاشِي شَيۡـٔٗا. فَقَالَ لَهُ حَيۡوَةُ: أَنَا أَعۡطَيۡتُ رَبِّي يَقِينٗا، وَأَنتَ أَعۡطَيۡتَهُ تَجۡرِبَةٗ. يَعۡنِي: أَنتَ كُنتَ تُرِيدُ أَن تُجَرِّبَ وَتَخۡتَبِرَ رَبَّكَ، فَتَصَدَّقۡتَ، لِتَنظُرَ ٱلنَّتِيجَةَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَتَصَدَّقُ وَأَنَا رَاسِخُ ٱلۡيَقِينِ بِمَا عِندَ ٱللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ ٱلۡجَزَآءِ وَٱلۡعِوَضِ.

٣- أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلَّذِينَ لَا يَزِيغُونَ عَنِ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَشَابَهُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأُمُورُ :

قَالَ تَعَالَى:

﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ لَوۡلَا يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوۡ تَأۡتِينَآ ءَايَةٞۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّثۡلَ قَوۡلِهِمۡۘ تَشَٰبَهَتۡ قُلُوبُهُمۡۗ قَدۡ بَيَّنَّا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ‎﴿١١٨﴾‏ ﴾ [ٱلۡبَقَرَة].

فَأَهۡلُ ٱلۡيَقِينِ ٱلۡحَقُّ عِندَهُمُ ٱلۡحَقُّ وَاضِحٞ وُضُوحَ ٱلشَّمۡسِ، لِذَا فَهُمۡ لَا يُرَآءُونَ وَلَا يُنَافِقُونَ.

دَخَلَ هشامُ بۡنُ عَبدِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡخَلِيفَةُ ٱلۡأُمَوِيُّ ٱلۡكَعۡبَةَ، فَرَأَى سَالِمَ بۡنَ عَبدِ ٱللَّهِ بۡنِ عُمَرَ بۡنِ ٱلۡخَطَّابِ رَضِيَ ٱللَّهُ تَعَالَىٰ عَنهُمۡ، فَقَالَ لَهُ: سَلۡنِي حَاجَةٗ. فُرۡصَةٞ ثَمِينَةٞ، ٱلۡخَلِيفَةُ يَعۡرِضُ عَلَيۡهِ أَن يَسۡأَلَهُ مَا شَآءَ.

فَقَالَ سَالِمٞ: إِنِّي لَأَسۡتَحۡيِي مِنَ ٱللَّهِ أَنۡ أَسۡأَلَ فِي بَيۡتِهِ غَيۡرَهُ.

فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُ: فَٱلۡـَٔانَ سَلۡنِي حَاجَتَكَ.

فَقَالَ سَالِمٞ: أَمِنۡ حَوَآئِجِ ٱلدُّنۡيَا أَمۡ حَوَآئِجِ ٱلۡأٓخِرَةِ؟

قَالَ: بَلۡ مِنۡ حَوَآئِجِ ٱلدُّنۡيَا.

قَالَ: وَٱللَّهِ مَا سَأَلۡتُ ٱلدُّنۡيَا مَن يَمۡلِكُهَا، يَعۡنِي ٱللَّهَ، فَكَيۡفَ أَسۡأَلُ مَن لَا يَمۡلِكُهَا؟

٤- أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِيٓ ءَايَاتِ ٱللَّهِ وَإِعۡجَازِهِ فِي كَوۡنِهِ :

قَالَ تَعَالَى:

﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ‎﴿٣﴾‏ وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ‎﴿٤﴾‏ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ‎﴿٥﴾‏ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤۡمِنُونَ ‎﴿٦﴾‏ ﴾ [ٱلۡجَاثِيَة].

فَمِنۡ صِفَاتِ أَهۡلِ ٱلۡيَقِينِ أَنَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ فِي مَلَكُوتِ ٱللَّهِ، وَيَرَوۡنَ إِعۡجَازَ ٱللَّهِ فِي خَلۡقِهِ.

عَنۡ عَطَاءٖ قَالَ: دَخَلۡتُ أَنَا وَعُبَيۡدُ بۡنُ عُمَيۡرٍ عَلَىٰ عَائِشَةَ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهَا فَقَالَ عُبَيۡدُ بۡنُ عُمَيۡرٍ: حَدِّثِينَا بِأَعۡجَبِ شَيۡءٖ رَأَيۡتِهِ مِن رَسُولِ ٱللَّهِ ﷺ. فَبَكَتۡ، وَقَالَتۡ: قَامَ لَيۡلَةٗ مِّنَ ٱللَّيَالِي فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدۡ لِرَبِّي». قَالَتۡ: قُلۡتُ: وَٱللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرۡبَكَ وَأُحِبُّ مَا يُسِرُّكَ. قَالَتۡ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمۡ يَزَلۡ يَبۡكِي حَتَّى بَلَّ حِجۡرَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمۡ يَزَلۡ يَبۡكِي حَتَّى بَلَّ ٱلۡأَرۡضَ، وَجَآءَ بِلَالٞ يُؤَذِّنُهُ بِٱلصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَءَاهُ يَبۡكِي قَالَ: يَا رَسُولَ ٱللَّهِ، تَبۡكِي وَقَدۡ غَفَرَ ٱللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبۡدٗا شَكُورٗا؟ لَقَدۡ نَزَلَتۡ عَلَيَّ ٱلَّيۡلَةَ ءَايَاتٞ، وَيۡلٞ لِّمَن قَرَأَهَا وَلَمۡ يَتَفَكَّرۡ فِيهَا: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾».
رَوَاهُ ٱبۡنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

٥- أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلَّذِينَ يُوقِنُونَ بِأَنَّ ٱلنَّفۡعَ وَٱلضُّرَّ بِيَدِ ٱللَّهِ :

قَالَ تَعَالَى:

﴿ وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ‎﴿١٠٧﴾‏ ﴾ [يُونُس].

وَعَنِ ٱبۡنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنتُ خَلۡفَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﷺ يَوۡمٗا فَقَالَ:
«يَا غُلَامُ، إِنِّيٓ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٖ: ٱحۡفَظِ ٱللَّهَ يَحۡفَظۡكَ، ٱحۡفَظِ ٱللَّهَ تَجِدۡهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلۡتَ فَٱسۡأَلِ ٱللَّهَ، وَإِذَا ٱسۡتَعَنتَ فَٱسۡتَعِنۢ بِٱللَّهِ، وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱلۡأُمَّةَ لَوِ ٱجۡتَمَعَتۡ عَلَىٰٓ أَن يَنفَعُوكَ بِشَيۡءٖ، لَّمۡ يَنفَعُوكَ إِلَّا بِشَيۡءٖ قَدۡ كَتَبَهُ ٱللَّهُ لَكَ، وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ عَلَىٰٓ أَن يَضُرُّوكَ بِشَيۡءٖ، لَّمۡ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيۡءٖ قَدۡ كَتَبَهُ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ، رُفِعَتِ ٱلۡأَقۡلَٰمُ، وَجَفَّتِ ٱلصُّحُفُ».
أَخۡرَجَهُ أَحۡمَد.

وَعَن سِنَانِ بۡنِ أَبِي سِنَانٍ ٱلدُّؤَلِيِّ، وَأَبِي سَلَمَةَ بۡنِ عَبدِ ٱلرَّحۡمَٰنِ، أَنَّ جَابِرَ بۡنَ عَبدِ ٱللَّهِ ٱلۡأَنصَارِيَّ، وَكَانَ مِنۡ أَصۡحَابِ ٱلنَّبِيِّ ﷺ، أَخۡبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﷺ غَزۡوَةٗ قِبَلَ نَجۡدٖ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ ٱللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُمۡ، فَأَدۡرَكَتۡهُمُ ٱلۡقَائِلَةُ يَوۡمٗا فِي وَادٖ كَثِيرِ ٱلۡعِضَاهِ، فَنَزَلَ ٱلنَّبِيُّ ﷺ، وَتَفَرَّقَ ٱلنَّاسُ فِي ٱلۡعِضَاهِ يَسۡتَظِلُّونَ بِٱلشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ ٱللَّهِ ﷺ يَسۡتَظِلُّ تَحۡتَ شَجَرَةٖ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيۡفَهُ.

قَالَ جَابِرٞ: فَنِمۡنَا بِهَا نَوۡمَةٗ، ثُمَّ إِنَّ ٱلنَّبِيَّ ﷺ يَدۡعُونَا، فَأَتَيۡنَاهُ، فَإِذَا عِندَهُ أَعۡرَابِيّٞ جَالِسٞ، فَقَالَ رَسُولُ ٱللَّهِ ﷺ: «إِنَّ هَٰذَا ٱخۡتَرَطَ سَيۡفَهُ، وَأَنَا نَآئِمٞ، فَٱسۡتَيۡقَظۡتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلۡتٞا، فَقَالَ: مَن يَمۡنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلۡتُ: ٱللَّهُ. فَقَالَ: مَن يَمۡنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلۡتُ: ٱللَّهُ. فَشَامَ ٱلسَّيۡفَ، وَجَلَسَ، فَلَمۡ يُعَاقِبۡهُ ٱلنَّبِيُّ ﷺ، وَقَدۡ فَعَلَ ذَٰلِكَ».
أَخۡرَجَهُ أَحۡمَد.

📖 دَرَجَاتُ الْيَقِين

كَما أَنَّنا لا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ لِلْيَقِينِ ثَلاثَ دَرَجاتٍ وَهِيَ:

🔹 الأُولَى: عِلْمُ الْيَقِينِ
قَالَ تَعَالَى:
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾ [التَّكَاثُرِ: ٥].

فَعِلْمُ الْيَقِينِ هُوَ: الْعِلْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ.

🔹 وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُ الْيَقِينِ
قَالَ تَعَالَى:
﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التَّكَاثُرِ: ٧].

وَهُوَ مَا كَانَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَانْكِشَافٍ.

🔹 وَالثَّالِثَةُ: حَقُّ الْيَقِينِ
قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٧٤].

📖 العُنْصُرُ الثَّالِثُ: ثَمَرَاتُ الْيَقِينِ

فَإِنَّ لِلْيَقِينِ ثَمَرَاتٍ وَفَوَائِدَ جَلِيلَةً يَعِيشُهَا مَنْ تَحَلَّى بِالْيَقِينِ، وَمِنْهَا:

🔹 ١- الْيَقِينُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حَيَاةِ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَنَشَاطِهِ وَسَائِرِ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ.
فَالْيَقِينُ يُزِيلُ الرَّيْبَ وَالشَّكَّ وَالسُّخْطَ، وَيَمْلَأُ الْقَلْبَ نُورًا وَإِشْرَاقًا وَرَجَاءً وَخَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَمَحَبَّةً لَهُ، وَرِضًا بِمَا قَدَّرَ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ زِيَادَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالتَّوَكُّلِ وَالإِنَابَةِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَإِحْسَانِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَابُدَّ لِلْيَقِينِ مِنْ عِلْمٍ صَحِيحٍ يُوصِلُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَهُمَا يَدْفَعَانِ إِلَى الْعَمَلِ بِتَحَرِّي الاِتِّبَاعِ وَالإِخْلَاصِ.

وَتَأَمَّلْ حَالَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِمَامِ الْمُوَحِّدِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَمَا سَأَلَ رَبَّهُ قَائِلًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠].

فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسُؤَالِهِ هَذَا ” أَحَبَّ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ بِذَلِكَ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَأَنْ يَرَى ذَلِكَ مُشَاهَدَةً ” (تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ).

فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾، فَأَجَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: ﴿ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، فَرَضِيَ اللَّهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ قَوْلَهُ: ﴿ بَلَى ﴾، وَعَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ هَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ يُرِيدُ زِيَادَةَ الاِطْمِئْنَانِ وَالْيَقِينِ، وَإِزَالَةَ مَا قَدْ يَعْتَرِضُ فِي النُّفُوسِ وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ (تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ).

فَازْدَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْيَقِينِ إِيمَانًا وَقُوَّةَ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ.

🔹 ٢- الْيَقِينُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ، وَبِهِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ:
«بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ».

ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السَّجْدَةِ: ٢٤].

وَكَمَا أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِهِ الْعَظِيمَةِ: قُوَّةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ – كَمَا أَشَرْنَا فِي الثَّمَرَةِ الْأُولَى – هَذَا الْعَمَلُ الْقَلْبِيُّ الْعَظِيمُ. فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْيَقِينُ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ قَوِيَ تَوَكُّلُهُ.

قَالَ تَعَالَى:
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النَّمْلِ: ٧٩].

وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْيَقِينُ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ).

🔹 ٣- الْيَقِينُ سَبَبٌ لِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ لِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ حِينَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ – نَسْأَلُ اللَّهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ –، كَمَا أَنَّ الْيَقِينَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ.
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟

فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلَاثًا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الْحَدِيثُ السَّابِقُ ذِكْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:
«مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ قَوْلُهُ ﷺ:
«مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

🔹 ٤- الْيَقِينُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْقِيَامِ بِالْمَشْرُوعَاتِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَقِينَ يَمْنَعُ وُرُودَ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَيَدْفَعُ عَنِ النَّفْسِ مَا قَدْ تَجِدُهُ مِنْ ثِقْلٍ أَوْ صُعُوبَةٍ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ:
«وَالْقَلْبُ مَتَى اسْتَيْقَنَ مَا أَمَامَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَمَا أَعَدَّ لِأَوْلِيَائِهِ، زَالَتْ عَنْهُ الْوَحْشَةُ الَّتِي يَجِدُهَا الْمُتَخَلِّفُونَ، وَلَانَ لَهُ مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ».

وَيَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:
«مَا طُلِبَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَلَا هُرِبَ مِنَ النَّارِ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَلَا صُبِرَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا بِالْيَقِينِ» (فَتْحُ الْبَارِي لِابْنِ رَجَبٍ).

وَيَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:
«لَوْ أَنَّ الْيَقِينَ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَنْبَغِي لَطَارَتِ الْقُلُوبُ اشْتِيَاقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَخَوْفًا مِنَ النَّارِ» (فَتْحُ الْبَارِي لِابْنِ رَجَبٍ، وَسِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ).

وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: «مَا طَلَبْتُ الجَنَّةَ إِلَّا بِاليَقِينِ، وَلَا هَرَبْتُ مِنَ النَّارِ إِلَّا بِاليَقِينِ، وَلَا صَبَرْتُ عَلَى الحَقِّ إِلَّا بِاليَقِينِ».

وَيَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «لَوْ أَنَّ اليَقِينَ وَقَعَ فِي القَلْبِ كَمَا يَنْبَغِي لَطَارَتِ القُلُوبُ اشْتِيَاقًا إِلَى الجَنَّةِ وَخَوْفًا مِنَ النَّارِ».

٥- اليَقِينُ مِنْ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَسَلَامَةِ النَّفْسِ مِنَ الخَوْفِ وَالقَلَقِ وَالتَّرَدُّدِ، فَاليَقِينُ يُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ وَالاحْتِسَابِ وَالرِّضَا بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، وَيَدْفَعُ عَنِ القَلْبِ الوَسَاوِسَ وَالخَوَاطِرَ السَّيِّئَةِ.

قَالَ تَعَالَى:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التَّغَابُن: ١١].

يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ السَّابِقَةِ: «هُوَ العَبْدُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ».
وَيَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ: «فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هِدَايَةُ القَلْبِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ إِلَّا بِيَقِينِهِ».
وَيَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ: «فَمَنْ حَقَّقَ اليَقِينَ وَثِقَ بِاللَّهِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَرَضِيَ بِتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَانْقَطَعَ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالمَخْلُوقِينَ رَجَاءً وَخَوْفًا، وَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِالأَسْبَابِ المَكْرُوهَةِ».

وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ مُسَارَعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ ﷺ فِي حَادِثَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، فَإِنَّ فِيهَا مِنَ العِبَرِ اليَقِينِيَّةِ الشَّيْءَ العَظِيمَ؛ فَإِنَّهُ «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ؟ قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوْ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟! قَالَ: نَعَمْ؛ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ: الصِّدِّيقَ» [أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: «صَحِيحٌ»].

هَذِهِ بَعْضُ الثَّمَرَاتِ وَالأَثَارِ الحَسَنَةِ عَلَى مَنْ تَحَلَّى بِقُوَّةِ اليَقِينِ، وَاعْتَنَى بِتَرْقِيَتِهِ وَمُدَاوَمَةِ مُرَاجَعَتِهِ فِي نَفْسِهِ.

إِنَّهَا ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ فَلَا تَفُوتُكَ أَخِي المُسْلِمُ، فَالوُصُولُ إِلَيْهَا سَهْلٌ مَيْسُورٌ لِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ صِدْقَ الإِخْلَاصِ وَالمُتَابَعَةِ وَتَحَرِّي الحَقِّ.

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ