حين نتأمل واقع الفن في العالم العربي خلال العقود الأخيرة نجد أن الصورة التي تشكلت لم تعد مجرد انعكاس بريء لخيال كاتب أو مخرج، بل تحولت إلى مشروع ثقافي متكامل يهدف إلى إعادة صياغة الوعي الجمعي للأمة وفق رؤية تتعارض في كثير من الأحيان مع ثوابتها وقيمها.
الفن الذي كان من المفترض أن يكون لسان حال المجتمع ومرآة وجدانه صار سلاحًا في حرب ناعمة، يخوض معركة صامتة لكنها لا تقل فتكًا عن معارك السلاح، إذ ينخر في عظم الأمة ببطء ويعيد تشكيل أجيالها على نحو ينسلخ عن جذوره الحضارية والدينية.
من أبرز الأدوات التي استُخدمت في هذه الحرب هي صناعة صورة نمطية للمتدين المسلم بوصفه العدو الداخلي الذي يجب الحذر منه.
لقد رسخت الدراما العربية في مسلسلاتها وأفلامها شخصية المتطرف في قوالب ثابتة: شاب يرتدي الزي الإسلامي، يطلق لحيته، يتحدث بلسان الدين لكنه يمارس سلوكيات مشوهة، يعتدي على أهله وجيرانه، يتصف بالنفاق والانحراف الأخلاقي والجنسي، يفتقر إلى العقلانية والحوار، ويُقدّم على أنه شخصية متحجرة منفرة. هذه الصورة التي تكررت في عشرات الأعمال لم تأت من فراغ، بل جاءت استجابة لتوجيهات سياسية وفكرية هدفت إلى إضعاف صورة الدين في الوعي العام، وإلى إقناع الناس أن التدين رديف للعنف والتعصب والجهل.
وما يزيد الأمر خطورة أن هذه الشخصيات يتم إقحامها حتى في الأعمال التي لا تتطلب وجودها. فمسلسل اجتماعي أو تاريخي قد يُدخَل فيه فجأة شيخ ملتحٍ متجهم لا وظيفة له إلا تكريس صورة سلبية عن المتدين. وهذا الأسلوب ليس فنًا ولا إبداعًا بل هو دعاية أيديولوجية تتخفى تحت عباءة الدراما. لقد رأينا ذلك بوضوح في بعض الأعمال التي تبدو ظاهرها دمشقية أو تاريخية ولكن مضمونها يحمل خطًا لادينيًا مقصودًا، وكأن الهدف هو تعميق الشرخ بين المتلقي وبين صورته التراثية والدينية معًا.
في المقابل نجد أن السينما العربية تعمدت تصوير التيارات المناهضة للدين بصورة إيجابية تمامًا. فالشيوعي واليساري والعلماني يُقدَّم غالبًا في قالب الإنسان المثقف، الهادئ، العقلاني، النبيل، القارئ، الواعي، الذي ينتمي إلى عائلة محترمة، ويتحمل مسؤولياته ويضحي من أجل الآخرين. هذه الثنائية المفتعلة بين المتدين الشرير والمتفتح الملحد أو اليساري المثالي ليست مجرد صدفة درامية، بل هي رسالة ثقافية يراد ترسيخها في العقل الجمعي: الدين جهل وتخلف، والعقلانية والإنسانية والوعي لا تكون إلا بخروج الإنسان من عباءة الدين.
من يشاهد أفلامًا مثل “المصير” أو “الإرهابي” أو “البيضة والحجر” أو “الكيت كات” وغير ذلك سيلاحظ هذه الرسائل المتكررة بوضوح. ففي هذه الأعمال يتم ربط التدين بالفقر والعجز الاجتماعي، حتى يظهر المتلقي وكأنه أمام معادلة حتمية: الفقير يلجأ إلى الدين كمسكن، الجاهل يعتنق الدين كبديل عن الثقافة، بينما المثقف المتعلم الغني يبتعد عن الدين تلقائيًا. وهذا المنطق الخبيث يجعل من التدين حالة مرضية أو عارضًا اجتماعيًا لا أكثر، وليس خيارًا نابعًا من قناعة عقلية أو إيمان روحي.
إن أخطر ما في هذا الخطاب الفني أنه يزرع في نفوس الشباب شعورًا بالنفور من الدين قبل أن يعرفوه، ويجعلهم ينظرون إلى الملتزمين بنوع من الريبة والازدراء، بينما يدفعهم في الوقت ذاته إلى تقليد أنماط غربية أو يسارية تُقدَّم لهم على أنها النموذج الأرقى. هذه العملية ليست عبثًا ولا مجرد صدفة فنية، بل هي جزء من مشروع أشمل يقوم على الهندسة الثقافية وإعادة بناء الهوية. القوى المهيمنة على الإنتاج الفني في المنطقة ليست محايدة، بل تعمل وفق أجندات تتلاقى مع مصالح أنظمة أو جهات خارجية ترى في الدين قوة تهدد مشاريعها، فتسعى إلى تهميشه وتفريغه من مضمونه عبر تسفيه رموزه وتشويه صورته.
وإذا كان بعض الناس ما زالوا يعوّلون على الفنانين العرب في المواقف الكبرى والثورات والتحولات التاريخية، فإن التجربة أثبتت أنهم في معظمهم ليسوا سوى أدوات تجارية تتحرك بالتمويل، يرفعون شعارات حينًا ويهدمونها حينًا آخر، بحسب المصلحة والطلب. الفنان العربي في صورته السائدة اليوم لم يعد ذلك المبدع الحر الذي ينطق بضمير الأمة، بل غدا أشبه بدمية في يد صانع القرار، يحركه كما يشاء، ويحدد له سقف النقد وحدود التمرد.
إن خطورة الفن ليست في الترفيه ولا في الهزل، بل في قدرته على إعادة تشكيل الوعي من حيث لا يشعر الناس. الشاب الذي يشاهد عشرات المسلسلات والأفلام التي تربط الدين بالعنف والجهل لا بد أن يتأثر ولو على نحو لا واعٍ، ومع مرور الزمن يصبح من السهل إقناعه بأن التدين تهديد للحياة المدنية، وأن القيم الدينية عبء على التقدم. وحين يتكرر المشهد ذاته في كل موسم درامي، يصبح الاستثناء نفسه مستغربًا، وكأن المتدين الجاد المخلص صار خارج المألوف الفني.
إن الحل لا يكمن في مقاطعة الفن أو رفضه بالكامل، فالفن حاجة إنسانية أصيلة، بل في إعادة إنتاج فن بديل يعبر عن قيم الأمة، ويوازن بين الإبداع والهوية. نحن بحاجة إلى فن يعكس الحضارة الإسلامية بما فيها من عمق وجمال، فن يطرح شخصية المتدين بصورة إنسانية واقعية، يظهر فيها الإيمان مقرونًا بالعلم، والتدين مرتبطًا بالأخلاق والجمال والرحمة، بدلًا من الاقتصار على الصور المشوهة التي يراد تعميمها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا تكاتف المفكرون والمبدعون والمنتجون الجادون لبناء مشروع ثقافي بديل يقف في وجه التيار المهيمن.
لقد آن الأوان لتعرية هذه المشاريع الفنية التي تتخفى تحت شعار الحرية والإبداع بينما هي في جوهرها مشاريع سياسية موجهة. وآن الأوان أيضًا لإبعاد هذه النماذج الزائفة عن المكون الوطني والثقافي، لأن بقاءها يعني استمرار النزيف في جسد الأمة. الفن الحقيقي هو الذي يداوي جراح الأمة لا الذي يوسعها، وهو الذي يعزز هويتها لا الذي يسلبها، وهو الذي يصنع الأمل والوعي لا الذي يزرع الشك والفراغ.
إن الأمة التي أنجبت حضارة عمرها قرون، وأبدعت في الفلسفة والشعر والموسيقى والعمارة، ليست عاجزة عن أن تخلق فنًا جديدًا يليق بها. لكنها تحتاج أولًا إلى أن تتحرر من الهيمنة الفكرية التي تجعلها تستهلك صورًا مزيفة عن نفسها. وحين يدرك الناس هذه الحقيقة، وحين يرفضون أن يكون الفن خنجرًا في خاصرتهم، سيتغير المشهد، وسينهض فن جديد يكون بحق مرآة لروح الأمة وأداة لحفظ هويتها من الذوبان.