من المهد إلى اللحد… رحلة الحياة المليئة بالفرح والقرح والتعلّم

بقلم الاستاذ : أحمد المهيدى

الحياة كتابٌ مفتوح، تبدأ أولى صفحاته مع صرخة الميلاد في المهد، ولا تُغلق أوراقه إلا حين يستقر الجسد في اللحد. وبين البداية والنهاية، يكتب كل إنسان حكايته بخطوطٍ من فرحٍ وقرحٍ، ومن دروسٍ يتعلمها مع كل يوم يعيشه.

المهد بداية النقاء :
في المهد، يولد الإنسان على صفاء الفطرة، صفحة بيضاء نقية. لا يحمل في قلبه همًّا ولا في عقله عقدة. يصرخ أول صرخة معلنًا حضوره في عالمٍ لا يدري عنه شيئًا في هذه اللحظة تبدأ الأسئلة الوجودية بصمت: لماذا جئت؟ وإلى أين سأمضي؟

الطفولة مدرسة الفرح الأول :
طفولة الإنسان هي البستان الأول للحياة، حيث البراءة واللعب والدهشة. فيها يتذوّق لذّة الاكتشاف، ويتعلم أول دروس الحب والثقة والأمان. لكن، حتى في هذه المرحلة البريئة، تبدأ بذور القرح، حين يذوق طعم الفقد أو الانكسار البسيط. هكذا يدرك أن الحياة ليست حلوةً دائمًا، بل هي خليط معقّد من المشاعر.

الشباب مرحلة الحلم والاختبار:
يأتي الشباب، حيث الأفق الرحب والطموحات الواسعة هنا يبدأ الإنسان في مواجهة واقعه، ويكتشف أن ما حلم به لا يتحقق دائمًا كما أراد الشباب هو سن الفرح المندفع، لكنه أيضًا سن القرح العميق، حيث يتذوق الإنسان مرارة الخيبات الأولى، والانكسارات التي تعلّمه أن للحياة وجهًا آخر غير الذي تصوّره في طفولته ففي هذه المرحلة، يتعلم أن الطريق لا يُعبر دائمًا بالورود، بل بالأشواك، وأن الأمل لا بد أن يقترن بالعمل، وأن الحب لا يكتمل إلا بالصبر والتضحية

الكهولة مرحلة الموازنة والتعلّم :
حين يدخل الإنسان الكهولة، يبدأ ميزان الحياة في الاعتدال. لم يعد ذاك الحالم المندفع وحده، ولا ذاك الطفل البريء، بل صار عقلًا يزن الأمور وقلبًا أكثر حكمة.

هنا يتعلّم دروسًا أعظم: قيمة الصحة، نعمة الاستقرار، معنى العائلة، وصحبة الأصدقاء.
الفرح في الكهولة لم يعد في صخب اللهو، بل في لحظاتٍ هادئة مع الأحبة. والقرح لم يعد في خيباتٍ صغيرة، بل في مواجهة فقدٍ كبير أو انكسارٍ عميق. وهكذا يزداد عمق الإنسان، ويصبح التعلم أكثر نضجًا.

الشيخوخة حصاد التجربة:
تأتي الشيخوخة ببطء، كفصل الخريف، تذبل فيه الأوراق ولكن تبقى الشجرة شامخة في هذه المرحلة، يكون الإنسان قد اختبر الفرح والقرح معًا بما يكفي، وصار أكثر تصالحًا مع ذاته الحياة في شيخوختها تمنح الإنسان دروسًا أخيرة: أن ما مضى لا يعود، وأن ما بقي ليس كثيرًا، وأن البقاء ليس بالسنوات بل بما تركته من أثرٍ وذكرى طيبة. هنا يظهر جوهر التعلّم: أن الإنسان لا يملك شيئًا سوى قلبه وأعماله.

اللحد نهاية البداية :
وعندما يحين الموعد الأخير، يستقر الجسد في اللحد، حيث الصمت الأبدي لكن النهاية ليست فناءً محضًا، بل اكتمالٌ للرحلة. فالحياة المريرة بحلوها ومرّها لم تكن عبثًا، بل كانت امتحانًا لصناعة وعيٍ أعمق، ومعنى أوسع فالفرح الذي عشناه، والقرح الذي ذقناه، والدروس التي تعلّمناها، كلها تصبح زادًا يرافق الروح في رحلتها الأبدية.

خلاصة المسيرة :

الفرح إشراقات الطريق :
الفرح ليس مجرّد لحظات عابرة، بل هو بريق الروح حين تتذوّق طعم الوجود فرح الطفولة باللعب، فرح الشباب بالأحلام، وفرح الكهولة بالإنجازات والذكريات إنه وقودٌ يُعيننا على مواصلة السير، ويمنح للقلب خفةً تجعله يبتسم حتى في أحلك الظروف.

القرح امتحان الإنسان :
وكما أن الفرح رفيق الدرب، فإن القرح أيضًا حاضر لا يغيب. حزن الفقد، جراح الخيانة، قسوة التجارب… كلها تصنع في الإنسان ملامح الحكمة. القرح ليس لعنةً، بل معلمٌ صامت يذكّرنا أن هذه الدنيا ممرّ لا مقرّ، وأن القوة الحقيقية تولد من بين الرماد.

التعلّم زاد العمر :
من المهد إلى اللحد، يبقى الإنسان تلميذًا في مدرسة الحياة. يتعلم كيف ينطق أول كلمة، كيف يخطو أول خطوة، ثم كيف يواجه الصعاب، وكيف ينهض بعد العثرات. فكل تجربة درس، وكل لقاء مع الآخر كتاب، وكل سقوط بدايةٌ لنهوضٍ أعظم. ومن لم يتعلم، فقد عاش جسدًا بلا روح.

الرحلة اكتمال المعنى :
حين يجمع الإنسان بين الفرح والقرح، ويجعل من كليهما درسًا يتعلم منه، تصبح حياته لوحةً متكاملة، فيها النور والظل، فيها القوة والهشاشة، وفيها الحكمة التي تتجاوز حدود العمر.

فالحياة ليست بطولها أو قِصرها، بل بما تركته فينا من أثر، وبما سطرناه نحن فيها من معنى.