محمد ﷺ.. الرسالة الإنسانية التي أنارت العالم
6 سبتمبر، 2025
قبس من أنوار النبوة

بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر _ أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر
يطل علينا المولد النبوي الشريف كل عام ليجدد في وجدان الإنسانية جمعاء معاني النور والرحمة والهداية، فمولد النبي محمد ﷺ يعد نقطة تحول كونية خرجت منها رسالة خالدة تجاوزت حدود الزمان والمكان، لترسم للإنسانية طريقًا نحو الكرامة والحرية والعدل، خاصة زمن تتراكم فيه التحديات وتتصاعد الأزمات الأخلاقية والإنسانية، أضحت العودة إلى الرسالة المحمدية ضرورة تحفظ للإنسان وجوده ومكانته.
ويمثل المولد النبوي الشريف إعادة إشعال لوهج الرسالة في القلوب، وتذكير للبشرية بأن ميلاد محمد ﷺ كان بداية فصل جديد في مسيرة الوعي البشري؛ ففي مولده أشرقت معاني الرحمة وقيم الحرية، وتجلت إنسانية السماء على الأرض، ويأتي المولد ليعيد للأمة الإسلامية نداء بالعودة إلى المنبع الأصيل للرحمة والهداية، وليرسخ في وجدان الإنسانية كلها أن هذه الرسالة هي رصيد حضاري مشترك يذكرنا بقيمنا الكبرى الرحمة، العدل، التسامح، والتعارف، ودعوة لتجديد العهد مع هذه القيم، وتحويلها إلى طاقة فاعلة تصنع المستقبل، وتبني إنسانًا أكثر وعيًا ومسؤولية، ومجتمعًا أكثر تماسكًا وعدلًا، وعالمًا أكثر إنصافًا ورحمة.
وقد ولد النبي محمد ﷺ في زمن اشتدت فيه أزمات العرب والعالم، حيث عم الظلم، وانهارت القيم، وغاب العدل، فانتشر الاستعباد، وضاعت حقوق المرأة، وسادت العصبية القبلية والتمييز الطبقي، وفي خضم هذا السياق المظلم، جاء ميلاد النبي ﷺ إيذانًا ببزوغ فجر جديد، فكان ميلاده رسالة أمل تبشر بتحول عميق في مسار البشرية، وتجدد في الوعي الإنساني معنى العدل والحرية والكرامة، وإدراك هذه الحقيقة يجعلنا نرى في المولد النبوي رمزًا دائمًا لانبعاث القيم وتجدد النور في مواجهة عصور الظلام.
ولقد جاء النبي محمد ﷺ رحمةً للعالمين، فجعل من الرحمة جوهر بعثته ومفتاح فهم رسالته، وكانت الرحمة عنده ممارسة عملية انعكست في حياته كلها في وصاياه بالنساء والضعفاء، وفي رعايته للأيتام والفقراء، وفي عطفه على الحيوان والطبيعة، بل وفي تعامله مع أعدائه الذين آذوه وأخرجوه من بلده، إذ جسد أرقى صور التسامح يوم فتح مكة حين قال ﷺ اذهبوا فأنتم الطلقاء، وهكذا قدم ﷺ نموذجًا للنبي الإنسان الذي جعل الرحمة أسلوب حياة ومبدأ وجود، واستحضار هذه القيمة العظمى اليوم يضع أمامنا مسؤولية أخلاقية كبري في أن نعيد بناء علاقاتنا الإنسانية على أساس من التعاطف والتراحم، في زمن تتفاقم فيه الصراعات وتضعف فيه الروابط الإنسانية، وأن نؤكد أن قوة المجتمعات تقاس بقدرتها على أن تتسع بالرحمة للضعفاء والمهمشين.
ويعد ميلاد النبي محمد ﷺ كان نقطة تحول كبرى في مسيرة البشرية؛ فقد كان العالم يوم مولده غارقًا في ظلمات الجهل والتمييز الطبقي والانحراف الأخلاقي، فجاء ميلاده إيذانًا بميلاد أمة جديدة وشهادة على بدء عصر مغاير، ومع بعثته الشريفة تحول التاريخ من دائرة الصراع على القوة والمصالح إلى أفق أوسع، يضع الرحمة والعدل والكرامة الإنسانية في مركز العلاقات البشرية، ليكون الإسلام بذلك مشروعًا حضاريًا شاملاً أنقذ الإنسان من عبودية الإنسان لغير الله.
ويشكل المولد النبوي الشريف محطة إيمانية متجددة تتجلى فيها أنوار الروح، حيث يجد المسلم نفسه مدعوًا إلى استحضار معاني القرب من الله من خلال حب نبيه ﷺ واتباع سنته، فهو مناسبة لتجديد العهد مع قيم الصلاة على النبي ﷺ، ولمحاسبة النفس على قدر التزامها بهديه، وللاستمداد من سيرته ما يعيد إلى القلوب السكينة، ويغرس في النفوس الطمأنينة، ويجعل من الذكرى طاقة روحية تعين على مواجهة تحديات الحياة بقلب مطمئن وعزيمة ثابتة، وكذلك من المعاني الكبرى التي حملها المولد النبوي الشريف أن بعثة سيدنا محمد ﷺ تعد مشروعًا لتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله، فهي حرية مسؤولة تعيد للإنسان كرامته، وتجعله عبدًا لله وحده، فلا يخضع إلا لسلطان الحق، ولا يستسلم لهيمنة بشر أو طغيان قوة، وبهذا أعاد الإسلام الاعتبار لقيمة الإنسان بوصفه مخلوقًا مكرمًا، جعله الله خليفة في الأرض، ومنحه عقلًا وضميرًا ليعمر الدنيا بالعدل والخير.
وقد خاطبت الرسالة المحمدية الإنسان في كل عصر، وأعلنت عن بعدها الإنساني الشامل، حين قرر النبي ﷺ أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وجمعت بعثته الشريفة الشعوب تحت راية التوحيد، وأرسي ميثاق المدينة نموذجًا مبكرًا للتعايش بين المسلمين وغيرهم على أساس من الحقوق والواجبات المشتركة، في لحظة تاريخية لم تعرفها الإنسانية من قبل، وبالتالي فالرسالة المحمدية ميلاد مشروع حضاري عالمي يقوم على الاعتراف بالتنوع، وترسيخ قيم العدالة والإنصاف، وبناء جسور التفاهم بين الأمم، وفي عصرنا المليء بالتوترات والصراعات، يصبح من واجبنا أن نقدم الإسلام على حقيقته رسالة إنسانية كونية تعلي من قيمة الإنسان، وتدعو إلى التعاون والتكامل بدلًا من الصراع والإقصاء.
ويظل سيدنا محمد ﷺ مدرسة متكاملة في السلوك الإنساني؛ فقد تجسدت في شخصه معاني الصدق والأمانة والتواضع والصبر والعدل، وكان قدوةً في كل أدواره قائدًا ومعلمًا، وزوجًا رحيمًا، وأبًا عطوفًا، وصديقًا وفيًّا، وتعد دراسة سيرته استدعاء لقدوة قادرة على إلهام الأجيال خاصة في عالمنا المعاصر الذي يعاني من أزمات القيادة وانهيار النماذج الأخلاقية، يبقى النبي ﷺ النموذج الأسمى للقائد المصلح الذي جمع بين قوة الإرادة ورحابة القلب، بين الحزم في المبدأ والرحمة في التعامل.
ويعيد الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف تشكيل الوعي الفردي والجماعي، إذ يغرس في النفوس معاني المحبة والقدوة. فهو مناسبة تربوية لبثّ قيم الصدق والأمانة في الناشئة، وبناء وعي شبابي يتسلح بالمسؤولية والالتزام، كما أنه مدخل لترسيخ قيمة الرحمة في الأسرة، وقيمة العدل في المجتمع، وقيمة المواطنة الصالحة في الأمة، فهو منهج تربوي شامل يسهم في صناعة الإنسان القادر على مواجهة تحديات عصره بروح أخلاقية سامية.
ونخلص إلى أن الرسالة المحمدية تميزت بقدرتها على تجاوز الحدود، لتخاطب الإنسان من حيث هو إنسان، وتلامس المشترك الإنساني الذي يجمع البشرية جمعاء، فقد دعا النبي محمد ﷺ إلى وحدة الأسرة البشرية على أساس من الكرامة التي منحها الله لكل إنسان، وجعل من التنوع آية من آيات الخلق، ومن الحوار الحضاري وسيلة للتعارف والتكامل بين الشعوب، ومن ثم فهو حدثًا عالميًا يحمل رسالة للإنسانية كلها، يدعوها إلى السلام والتعايش وبناء حضارة راشدة تستند إلى العدل والرحمة.
ونؤكد أن سيدنا محمد ﷺ أقام حضارة متكاملة يتكامل فيها البعد الروحي مع البعد المادي، ويعد الاحتفاء بمولده انطلاقة تربوية لتجديد العهد مع القيم، واستلهام القدرة على تحويلها إلى مشاريع نهضوية حضارية، تسهم في بناء إنسان راشد بوعيه، متماسك في قيمه، قادر على مواجهة تحديات عصره بثبات وإيمان، ولبناء مجتمع متماسك في نسيجه، قائم على الرحمة والعدل، يسعى إلى التنمية والابتكار بروح أخلاقية سامية حتي تكون الأمة الإسلامية قادرة على النهوض من جديد، وأن تقدم للعالم نموذجًا حضاريًا يثبت أن القيم الروحية والأخلاقية هي أساس التقدم والنهضة.