من الهزيمة إلى النصر.. كيف صنعت الشئون المعنوية روح أكتوبر

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

بعد نكسة يونيو 1967، عاش الجيش المصري لحظات من أصعب ما يمكن أن تمر بها أمة، فقد فقدنا الأرض في سيناء، وتعرضت المعنويات لضربة قاسية، وشعر الجنود والمواطنون بجرح عميق في الكرامة الوطنية. كانت لحظة صمت ثقيل، اختلط فيها الحزن بالغضب، لكن ما لم يدركه العدو آنذاك أن هذا الجرح كان الشرارة التي ستوقظ روح المقاومة وتعيد بناء المقاتل المصري على أسس أقوى وأصلب.

في تلك الفترة العصيبة، أدركت القيادة العامة للقوات المسلحة أن استعادة الأرض تبدأ أولًا باستعادة الروح، وأن الجندي الذي يحمل السلاح يجب أن يحمل في قلبه إيمانًا لا يتزعزع بعدالة قضيته. وهنا برز دور الشئون المعنوية لتكون الحارس الأمين على وعي المقاتلين، فبدأت معركة من نوع آخر، معركة لتطهير النفوس من آثار الهزيمة وزرع الثقة في النصر القادم.

لم تكتف الشئون المعنوية بخطب التحفيز داخل المعسكرات أو بنشر الأخبار المشجعة، بل توسعت في أدواتها لتستعين بكافة المؤسسات الدينية الوطنية التي تتمتع بمصداقية عالية لدى الشعب والجنود على حد سواء. جاء الأزهر الشريف بعلمائه ليخاطب الجنود بلغة الإيمان والجهاد المشروع دفاعًا عن الأرض والعرض، مستشهدًا بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي ﷺ التي تحث على الدفاع عن الوطن ومقاومة المعتدي. وجاءت وزارة الأوقاف لتسخر منابرها في كل أنحاء الجمهورية، فتجعل خطب الجمعة منبرًا للوطنية والوعي، تربط بين النصر في الميدان والنصر في العقيدة. ولم تغب الكنيسة المصرية عن المشهد، بل شاركت بروح الوحدة الوطنية، فوقف القساوسة يخاطبون الجنود والمواطنين عن قدسية الأرض، وأن الدفاع عنها واجب ديني وإنساني، وأن دماء الشهداء أمانة في أعناق الجميع.

كان التنسيق بين الشئون المعنوية وهذه المؤسسات الدينية مثالًا رائعًا للوحدة الوطنية الحقيقية، حيث اندمج صوت الأذان مع دقات أجراس الكنائس في نغمة واحدة تدعو إلى الصمود. هذه الجهود صنعت جنديًا مختلفًا، جنديًا لا يرى المعركة مجرد أوامر عسكرية، بل واجبًا مقدسًا لا رجعة عنه، مما جعل ساعة الصفر يوم السادس من أكتوبر لحظة انفجار طاقة إيمانية ووطنية غير مسبوقة.

ومع مرور الأيام، تحولت المرارة إلى قوة، والإحباط إلى تصميم، حتى جاء يوم العبور العظيم، حيث عبرت قواتنا قناة السويس وحطمت خط بارليف في معركة أذهلت العالم. كان الانتصار العظيم تتويجًا لسنوات من العمل الصامت الذي قادته الشئون المعنوية بالتعاون مع الأزهر والأوقاف والكنيسة، فصنعوا من الهزيمة دروسًا، ومن اليأس قوة، ومن الجيش الذي تلقى ضربة في 1967 جيشًا يرفع راية النصر في 1973.

لقد أثبتت تجربة ما قبل أكتوبر أن النصر يبدأ من الداخل، من بناء عقيدة راسخة في القلوب والعقول، وأن تكاتف مؤسسات الدولة – المدنية والدينية والعسكرية – قادر على صناعة جيل من الأبطال يسطر التاريخ بدمائه. وما أحوجنا اليوم أن نستعيد هذا النموذج الفريد، لنعلم أبناءنا أن حب الوطن ليس شعارًا يُقال، بل عمل وتضحية وإخلاص، وأن الدفاع عنه واجب لا يسقط بالتقادم.

واليوم، ونحن نتذكر تلك الحقبة المضيئة من تاريخ مصر، ندرك أن سر النصر لم يكن في السلاح وحده، بل في الروح التي زرعتها الشئون المعنوية في كل مقاتل، وفي الإيمان الذي بثته المؤسسات الدينية، وفي الوحدة التي جعلت الهلال يعانق الصليب تحت راية مصر. كان ذلك هو السلاح السري الذي جعل جندي أكتوبر يقاتل بروح لا تقهر، ويكتب بدمه على رمال سيناء أن مصر لا تُهزم أبدًا.