خطبة بعنوان ( تأملات في حديث النبي ﷺ إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ) للدكتور محمد جاد قحيف
19 أغسطس، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( تأملات في حديث النبي ﷺ إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها
للدكتور : محمد جاد قحيف
الحمدُ لله الذي خلق الكون فأبدعه وسن الدين وشرعه ، وقدر الرزق ووسعه ، لا معز لمن وضعه ، ولا مذل لمن رفعه ، ولا إله إلا هو ولا شريك معه ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، يعلمُ خائنةَ الأعيُن وما تُخفِي الصدور ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، الرحمة المهداة والنعمة المزداة والسِّراجُ المُنير، اللهم صل وسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، وقائِدُ الغُرِّ المُحجَّلين، صلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آلِ بيتِه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين وبعد :
هيا بنا أخوتي نطوف في حدائق الإيمان نقتطف ثمرة يانعة من أطاييب كلامه صلى الله عليه وسلم نعيش مع حديث صحيح في أعلى درجات الصحة نتأمل مقاصده ونتعرف على أهدافه وهذا الحديث الشريف : أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا، وهي مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي ما هي؟ فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ البَادِيَةِ، ووَقَعَ في نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أبِي بما وقَعَ في نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَكونَ لي كَذَا وكَذَا.
أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
بداية الحديث سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم لجمع من أصحابه يعلمهم ويحثهم على الاتصاف بخلال الخير والعطاء ، فيسأل صحابته عن نوع من أنواع الشجر : إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها ، وهي أشبه الأشياء بالمسلم ، أو المؤمن ، في صفاتها ومنافعها ، فما هي ؟ .
فوقع أذهان الحضور في أنواع شجر البادية والصحراء
مثلا :
***شجر الزيتون المبارك الذي كان العرب ياخذون من ثمره وزيته وينتفعون به في الطعام والدواء .
* شجر التين الشوكي
وهو من الأشجار الصحراوية التي لديها القدرة على الصبر، و تحمل العطش والجفاف ، الذي قد يمتد لسنوات طويلة. وينتج ثماراً لذيذة الطعم ،غنية بالمنافع ، وهو من أنواع نبات الصبار ، وتنمو أزهار لبعض أنواعه .
***شجر الأراك
وهي شجرة يخرج من أغصانها اعواد الأراك ، التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على التسوك بها ، وتنظيف الاسنان وتلميعها ، و كان العرب و ما زالوا يستخدمون اعوادها لتنظيف أسنانهم ، وتطهيرها ، وحفظ الطعام ، وتعطير الملابس ، وغير ذلك .
***شجر الطلح
من أشجار الصحراء العربية شجر الطلح ، وهي شجرة ذات أشواك طويلة وحادة، ولها جذور عميقة ، ولديها القدرة على حفظ الماء بداخلها ، وتتغذى الإبل و الماشية على أوراقها، وتدخل في بعض طعام الإنسان .
***شجر السدر
وهو شجر النبق شجر صحراوي فى الأصل ، كثير الشوك ، قليل الثمر .
***شجر السمر
وهي شجرة مغبرة ذات اللون الأخضر تعيش شجرة السمر في المرتفعات والمنحدرات والوديان والواحات ، وغير ذلك من أشجار البادية …
ففكر الصحابة في كثير من شجر البادية ، وربما وجد الصحابة أن إجابتهم بعيدة عن مقصد رسولنا صلى الله عليه وسلم فقالوا فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ .
لكن الوحيد الذي عرف إجابة هذا السؤال أو اللغز طفل دون العاشرة من عمره هو سيدنا عبد الله بن عمر راوي الحديث رضي الله عنه وعن والده فسر والده بهذا سرورا بالغا فكان أحب إليه من نعيم الدنيا ، ومن حمر النعم ومن أثمن واعز ما يملك من المال ، بل من الدنيا وما فيها وتمنى لو أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه حتى ينال بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ويظفر به .
وفي هذا الحديث فوائد : منها
١- استحباب إلقاء الداعية الأسئلة السلسلة على المدعوين ، أو المعلم على طلابه ، أو الوالد لأبنائه ، ليختبر أفهامهم ، ويتعرف على ذكائهم وفهمم، وفكرهم وحسن استنباطهم ، واستخدام النبي للمناقشة والحوار لإقناع المدعو وتنشيط الذهن والذاكرة، وهذا منهج تربوي فريد .
٢- ضرب الأمثال والأشباه .
كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ” مُعلِّمًا حَكيمًا ومُربِّيًا عَظيمًا، وكان يُقرِّبُ المَفاهيمَ للناسِ بضَربِ الأمثالِ الموضِّحةِ… وأشبَهَت النَّخلةُ المسلمَ في كَثرةِ خَيرِها، ودَوامِ ظِلِّها، وطِيبِ ثَمرِها، ويُتَّخَذُ منها مَنافعُ كثيرةٌ، وهي كلُّها مَنافعُ وخيرٌ وجَمالٌ، والمؤمنُ خيرٌ كلُّه؛ مِن كَثرةِ طاعاتِه، ومَكارمِ أخلاقِه، ومُواظبتِه على عِبادتِه، وصَدَقتِه، وسائرِ الطَّاعات، فكأنَّ الخيرَ لا يَنقطِعُ منه، فهو دائمٌ كما تَدومُ أوراقُ النَّخلةِ فيها، ثمَّ الثَّمَرُ الكائنُ منها في أوقاتِه.
وفي الحديثِ: إلْقاءُ العالِمِ المسائلَ على المُتعلِّمين؛ ليَختبِرَ أفهامَهم.وفيه: ما يدُلُّ على فِطنةِ عبدِ اللهِ بنِ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما.وفيه: فضْلُ النَّخلةِ، وشَبَهُها” بالمُسلمِ. ينظر الدرر السنية إشراف الشيخ علوي عبد القادر السقاف .
كما يجوز التشبيه بين الإنسان والجماد لتقريب المعنى ، اذا كان وجه الشبه صالحا موجودا في الطرفين .
٣-الرحمة بالصغار و توقير الكبار
فمن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالصغار حضورهم مجالس العلم مع رسول فقد كان سيدنا عبد الله بن عمر دون العاشرة وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكبار صحابته ، وكبار الشخصيات في المدينة المنورة ليتعلم من النبي وصفاته ، و أصحابه الكرام وخلالهم .
واحترام الكبار كما فعل سيدنا عبد الله بن عمر في حيائه من كبار الصحابة ، وقد كان في القوم ابو بكر وعمر وأمثالهم ، وان كان الأفضل أن يستأذن ويجيب إن كان عنده معرفة بإجابة السؤال ، كما شجعه والده عندما حدثه ابن عمر عما وقع في نفسه من تفسير .
وهذا احترام نابع من تربية سليمة انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم “ليس منا من لم يرحمْ صغيرَنا ، ويُوَقِّرْ كبيرَنا ”
رواه الإمامان أبو داوود والترمذي في السنن بسند حسن عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه
٤- تشجيع الأبناء على حضور مجالس العلم ، وعلى الحوار : وسعادة الوالد دوما بنجابة أولاده ؛ لذلك قيل أفضل ما يسعد الإنسان بتميزه وتفوقه عليه هو ولده فلذة كبده ، وقول سيدنا عبد الله بن عمر : ( فَحَدَّثْتُ أبِي بما وقَعَ في نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَكونَ لي كَذَا وكَذَا.) وهذا دليل على حقارة زخارف الحياة الدنيا ، عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن حسن الفهم لرسول الله أغلى من كل شيء .
٥ – وفيه فضل زراعة شجر النخيل ؛ لما فيه من منافع وفوائد عديدة، وعملا بنصيحة زراعة أشجار النخيل ، وهذا من فقه جزء من آية كريمة في سورة الكهف (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا )( الآية/ ٣٢. )
ولما فيها من فوائد عديدة ، البلح والتمور والرطب بكافة أنواعها وألوانها ، والجريد وجذع النخيل ، حتى الخوص والمكانس اليدوية ، من خشبها وورقها وأغصانها ، فيستعمل جذوعا وسقفا، وحطبا وعصيا ، ومخاصر وحصرا وحبالا ، ومقاطف وأواني ومقاعد ، وغير ذلك ، حتى النوى يزرع منه فسائل وأشجار أخرى ، فينتفع به ويصنع منه أيضا علفا للإبل ، شجر النخيل كله فوائد ، ولا يضر ما حوله من زرع ، خلق الله أغصانها متفرقة الأخواص ، وجذورها ليست عميقة ، بل عبارة عن “صلاية” تحت النخلة مباشرة فلا تؤثر على زرع ولا بناء ، فضلا عن جمال نباتها ، وحسن هيئة ثمرها ، فهي منافع كلها ، وخير وجمال ؛ لذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أو المؤمن بالشجرة التي لا يسقط ورقها .
وإن زراعة شجرة مثمرة أولى من خطبة عصماء لا منفعة من ورائها ، ولا أثر لها كما قال أحد أساتذتنا ومشايخنا الدكتور محمد أبو زيد (رحمه الله).
وفي قصة تحرر سيدنا سلمان الفارسي من رق العبودية اتفق مع سيده اليهودي أن يشتري حريته بزراعة بستان من النخيل لسيده .
عن سلمانَ الفارسيِّ قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ كاتِبْ فسألْتُ صاحِبي ذلك فلم أزلْ به حتى كاتبَني على أن أُحيِيَ له ثلاثَمائةِ نخلةٍ وبأربعينَ أوقيةً من ذهبٍ فأخبرْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ بذلك فقال لي اذهبْ ففقِّرْ لها فإذا أردْتَ أن تضعَها فلا تضعْها حتى تَأتيَني فتؤذِني فأكونَ أنا الذي أضعُها بِيدي قال فقمْتُ بِتفقيري وأعانَني أصحابي حتى فقرْتُ لها سَرَبَها ثلاثَمائةِ سَريةٍ وجاء كلُّ رجلٍ بما أعانني به منَ الخلِّ ثم جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فجعلَ يضعُهُ بِيدهِ ويُسوِّي عليْها ترابَها ويُبرِّكُ حتى فرغَ منها فوالذي نفسُ سلمانَ بيدِهِ ما ماتَتْ منها وديةٌ… ينظر المحلى لابن حزم عن عبد الله بن عباس. بسند صحيح. ج ٩ ص ٢٢٦.
يقول الامام القسطلاني عن النخلة : ” ما أتاك منها نفعك ، والحكمة في تمثيل المؤمن بها لكثرة خيرها ، ونفعها على الدوام، وثمرها يؤكل رطبًا ويابسًا، وهو غذاء ودواء وقوت، وحلوا ، وشراب وفاكهة ، ووجه شبهها بالإنسان من وجوه استواء القدّ وطوله، وامتياز الذكر عن الأنثى، وأنها لا تحمل حتى تلقح، وإذا قوبل بين ذكورها وإناثها كثر حملها ، لاستئناسها بالمجاورة ورائحة طلعها كرائحة مني الإنسان ، وإذا قطعت رأسها هلكت بخلاف الأشجار” ينظر : إرشاد الساري شرح صحيح الإمام البخاري .
ج١٢ ص ٢٤٠.
٦- كما أن المؤمن النافع حياته كلها خير ومنافع للغير ، العبادة والطاعة ، ومكارم الأخلاق وحسن السلوك والصفات ، والصدقة والإنفاق والصلة ، وإصلاح المجتمع والصلح ما بين المتخاصمين … ، والمؤمن نافع في قوله وفعله ، وصفاته ، له ولجميع من حوله ، فهذا هو الصحيح في التشبيه ، أن النخلة شبيه الإنسان المؤمن لأنه أصل الخير ، وكما قال القسطلاني في النص السابق وجه الشبه أنه إذا قطع رأسها ماتت بخلاف باقي الشجر ، كذلك الإنسان إذا قطع رأسه مات ؛ ولأنها لا تحمل حتى تلقح ؛ لذلك الذكور بجانب الإناث يحدث التكاثر والنماء .
نخلص مما سبق بأهمية صفات المؤمن ونفعه لأهله ، ولجميع من حوله في قوله وفعله وصفاته ، وفي خيره وعطائه الدائم ، الذي لا ينقطع ، وفي ثبات إيمانه ورسوخه ، ورفعته ، وعزته بدينه .
وأهمية تطبيق الفهم لقوله تعالى : في سورة الكهف (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا )( الآية/ ٣٢. ) ولأقوال النبي صلى الله عليه وسلم حيث شبه النخلة بالمؤمن في منافعه العديدة ، والمتميزة ، ونشر زارعة النخيل ؛ لمنافعه وفوائده ، وأن المؤمن يعم خيره كل مكان . وكذلك النخيل ينفع ظلها وثمارها منذ طلوع نباتها، وثمرها ، رطبة كالبلح والرطب ، او يابسة كالتمر .؛ لذا أوصى النبي صلى الله عليه بها ففيها الغذاء الكامل ، فقال : ” مَن تَصَبَّحَ بسَبْعِ تَمَراتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذلكَ اليومَ سُمٌّ، ولا سِحْرٌ”.
أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن سعد بن أبي وقاص .
كما يصلح زراعة النخيل في كل البيئات ، الصحراوية والزراعية وعلى ضفاف الأنهار ، و الترع، وتحف بها المساحات المنزرعة ، بخلاف أنواع أخرى من الزرع والشجر الذي قد يصلح في بيئة ، ولا يصلح في غيرها . لذلك ندعم بكل قوة مشاريع زراعة النخيل بالملايين والمشاريع التنموية ، والتوسع فيها؛ للنفع الخاص والعام .
بارك الله فيكم وفي أولادكم ووسع أرزاقكم..
ونسألُ اللهَ عزّ وجلّ أَنْ يُصْلِحَ بيوت المسلمين ، وأن يحفظ بيوتنا من الشتات، وأولادنا من الفساد، ويغفر لنا الزلات، ويكفر عنا السيئات..
واللهم أصلِح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، اللهم عليك باليهود المعتدين وكن عونا وناصرا بعبادك المؤمنين ، واللهم من أرادنا وأراد مصر والإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسِه، واجعل تدبيرَه تدميرَه ، واللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل..