إذهب إلى فرعون إنه طغى
15 أغسطس، 2025
بناء وتنمية الذات

بقلم الأستاذ: أحمد المهيدى
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا}
فرعون هو ذاك الطاغية المتجبّر الذي نصّب نفسه إلهًا يُعبد من دون الخالق العظيم، فكل طاغية متجبّر في هذا الكون يرمز إليه بلفظ الفرعون، ولعلّ أخطر أنواع الفراعنة وأشدّهم قسوة على الإنسان هم فراعنة النفس، فالنفس إن أُطلقت لهواها العنان كانت مهلكةً للإنسان وممزقةً له، وجعلت من روحه وجسده شيعًا ممزقة متناثرة.
يقول الحبيب المصطفى ﷺ: {أَعْدَى عَدُوِّكَ نفسُكَ التي بين جَنْبَيْكَ}فلنفهم الحديث الشريف بحكمة: عدوك، وأعدى أعدائك، هو نفسك والشر القابع بداخلك، فلا تُعلّق شرورك على العوامل الخارجية كالبيئة أو المحيط أو الظروف التي تمر بها، فداؤك ودواؤك بداخلك، ومعركتك في الداخل لا في الخارج.
وقد يخطئ الكثير في التقليل من شرور النفس، ويقصرها على الأفعال المادية كالذنوب والمعاصي، وهذا خطأ كبير. فالأفعال المادية وإن كانت جزءًا من شطط الأنفس إلا أنها أقلها شرورًا ما دامت لا تمسّ الآخرين ، إن من أعظم شرور أنفسنا هو تملّكها لذواتنا ودواخلنا، وفرض سيطرتها الكاملة علينا بجملتنا؛ ففي هذه اللحظة يصبح الإنسان نفسًا مجسّمة على هيئة جسد، وينازع الشيطان في شروره، وقد يتفوّق عليه.
قال تعالى: {إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ}
ويقول الحبيب المصطفى ﷺ: {ثلاث مهلكات: شُحٌّ مُطَاع، وهَوًى مُتَّبَع، وإعجابُ المرء بنفسه }
{ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ}
لكل طاغية نهاية، ولكل فرعون موسى :
رحمةً ببني إسرائيل المعذَّبين في الأرض على يد فرعون، أتت العناية الإلهية، وأرسل الله إليهم نبيًّا من عنده وهو سيدنا موسى عليه السلام. فهل آن الأوان أن تُرسل موسى الذي بداخلك إلى فرعونك الداخلي؟
نعم، قد آن الأوان، فليس للعمر بقية، وليس في الحياة متسع لترك هذه الفراعنة التي مزّقت روحك إربًا، وأبعدتك عن خالقك، وشتّتك عن ذاتك. فكم أطلقت العنان للشهوات، وقد تملك قلبك الحقد والحسد والكبر والرياء، فصرت ألعوبة بيد نفسك ومن خلفها شيطانها الذي يسعى دائمًا لإرسالك إلى قعر الجحيم.
هل تخشى فرعون الذي بداخلك لأنه تملك واستبدّ؟
على مرّ العصور، لم يرسل الله تعالى نبيًّا إلى طاغية إلا وكان الطاغية يملك القوة، ويكون النبي في ضعف. وهذه هي الحكمة الإلهية لانتصار الحق؛ فلو كان الحق له اليد العليا لما كنا بحاجة إلى الأنبياء، ولما كان انتصاره معجزة. فموسى عليه السلام، الطفل العبراني الذي وضعته أمّه في صندوق خشبي لينجو من بطش فرعون، وهو ابن الطائفة المعذبة من بني إسرائيل، هو من سيُكلّف بمواجهة فرعون الطاغية الذي نصّب نفسه إلهًا على أهل مصر! بالتأكيد معادلة خاسرة بالقياسات المنطقية، ولكن بقوانين الرب هي أكثر المعادلات نجاحًا.
{فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ }
ادخل إلى تلك البراثن المظلمة، وتحسّس تلك الأصنام التي بداخلك لتهدمها، وادخل إلى معابد الشيطان في قلبك لتطهرها. فكل يوم يركب سفينة الناجين المئات، بل الآلاف، وأنت لست منهم. فقد آن أوانك وحان حينك. اليوم تشرق شمسك بعد المغيب.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ* فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ } فما الذي يمنعك أن تكون منهم؟
وقال أيضًا: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ }
حتمية انتصارك وعدٌ إلهي، فلماذا لا تبدأ؟
وقال أيضًا: {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا }فهل تختار أن تكون من أهل الفلاح أم من أهل الخيبة؟ فأنت من يقرّر!
يقول الحبيب المصطفى ﷺ: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، ألا وهو جهاد النفس} عظُمت التزكية وعَلَت منزلتها حتى سمّاها الحبيب “الجهاد الأكبر”، فهل تودّ أن تكون من المجاهدين أم من القاعدين؟
يقول سيدي إبراهيم بن أدهم: {جهاد النفس هو باب العبادة الأعظم، فمن دخل منه وصل إلى باب الله} فهل تحب أن تصل إلى باب الله أم تظل قابعًا على أبواب الشيطان؟
يقول أرسطو: {الإنسان الحر هو من يسيطر على نفسه، لا من يملك الآخرين}
ويقول ماركوس أوريليوس: {السيطرة على الرغبة بداية الحرية} فقد علم الفلاسفة أيضًا أن التزكية والسيطرة على النفس ورغباتها هي بداية الحرية. أَلَم يأنِ الأوان أن تعلم أنت؟
{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ}
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي}
عند احتدام معركتك مع نفسك سيركب الباطل بداخلك مركبًا عاليًا من الاستعلاء، وستقاومك نفسك بكل شراسة وقوة فلا تحزن ولا تستسلم، فأنت دخلت وكر الأفاعي وبيت الشيطان، والشيطان لا يستسلم بل يُجبَر على الخضوع.
فلا تتوقف عن طريقك إذا تعرّضت للذلات، ولا تشعر بالفشل إذا تعرضت للانتكاسات؛ فقد تبني قصرًا ثم تكتشف بعد ذلك أنك ما بنيت إلا بيتًا للعنكبوت، فينهار في دقائق معدودة، وقد تشيّد بروجًا مشيدة ثم تسقط جدرانها بهفوة منك.
إيّاك أن تتوقف؛ فهذه هي الطريق إلى الله، وهذا هو ترويض النفس. لا تُروَّض بسهولة ويسر، وطريق الله ليست خضراء مليئة بالزهور، إنها مليئة بالفخاخ والاختبارات؛ فسلعة الله غالية، ومهر المعية والقرب الإلهي حربٌ ضارية مع نفسك.
ولكنك في محطّ العناية الإلهية، فلا تخف ولا تحزن فستأتيك العناية بأشكال متعددة؛ فقد يمنحك الله صحبةً معينة عليه، وقد يبعث لك رسائل باطنية، وقد يمنحك رؤى لأهله وخاصته، وقد يتولى أمرك ويكفيك به عن غيره فافهم عناية الله لك، ولا تجلس مكتئبًا، فجمال الطريق من جمال العناية.
يقول أبو عبد الله القرشي: { سرت إلى الله عشرين سنة، ثم وقفت على الباب عشرين سنة أراقب متى يُفتح لي }
{فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا}
حتمية انتصار موسى الذي بداخلك وغرق فرعون لا جدال فيها ما دمت قائمًا على تزكية نفسك، ومداومًا على المسير إليه، فستغرق فراعنتك حتمًا {فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡأَعۡلَىٰ}
قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَبۡشِرُوا۟ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ} فهل للسائرين المحبّين جنة سوى نعيم القرب من مولاهم؟ فهل توجد بشرى أعظم من هذه؟
قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ} فنصر الله مع المؤمنين حتمًا، وهو وعد غير مكذوب.