(مسلمون بلا غطاء) الغلابة في حظيرة الديابة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

غزة… تلك البقعة الصغيرة التي كان يُفترض أن تكون قلعة للمقاومة وملاذًا لأهلها، تحولت إلى حظيرة محكمة الإغلاق، يسيطر على أبوابها ديابة من نوعين: ديابة من الخارج تمثلهم آلة الاحتلال الصهيوني، وديابة من الداخل تمثلهم سلطة حماس التي استولت على غزة بقوة السلاح منذ عام 2007، وأدارتها بمنطق الغلبة والسيطرة لا بمنطق الشراكة والمصلحة العامة.

منذ ذلك اليوم، يعيش أكثر من مليوني إنسان في سجن مفتوح، تتحكم فيهم قوتان تلتقيان في هدف واحد رغم العداء المعلن بينهما: إبقاء الوضع كما هو عليه، ليظل أهل غزة ورقة ضغط ومادة دعاية، ولتظل المعاناة وقودًا لمشاريع سياسية قذرة، يدفع ثمنها الغلابة من دمائهم وأعمارهم.

الاحتلال الصهيوني، بسياساته العدوانية، يفرض حصارًا خانقًا على غزة منذ أكثر من 18 عامًا. هذا الحصار لم يكتف بمنع السلاح كما يزعمون، بل حرم الناس من الدواء، ومنع دخول كثير من السلع الأساسية، وخنق الاقتصاد حتى أصبحت البطالة في مستويات كارثية، والفقر عنوانًا لحياة معظم السكان. كل هذا يتم بغطاء دولي من الصمت، وأحيانًا بمشاركة أطراف إقليمية لا تريد لغزة أن تنهض أو تتحرر من قبضة الديابة.

لكن ما يجعل الجرح أعمق، أن الداخل ليس أفضل حالًا من الخارج. سلطة حماس في غزة أدارت الحصار لمصلحتها، فاحتكرت المساعدات، وفرضت الضرائب على كل شاحنة تمر عبر المعابر، حتى تلك التي تحمل مواد غذائية أو أدوية. أصبح الحصول على أي فرصة عمل أو خدمة أساسية مشروطًا بالولاء السياسي، وكأن الانتماء الحزبي هو جواز المرور الوحيد للحياة. أما من يجرؤ على انتقاد السلطة أو كشف فسادها، فيواجه القمع أو السجن أو التشويه الإعلامي.

المساعدات التي تأتي من الخارج – سواء من الأمم المتحدة أو من جمعيات خيرية – لا تصل إلى مستحقيها إلا بعد أن تمر بميزان المصالح. في كثير من الأحيان، تجد أن الموالين يحصلون على حصص مضاعفة، بينما الأسر الفقيرة التي لا ترفع راية الحزب تعيش على الفتات. حتى “الأنفاق” التي كانت تُقدَّم للناس باعتبارها شريان حياة، تحولت في فترة من الفترات إلى تجارة رابحة لقيادات وعناصر محددة، في حين كان الشعب يدفع ثمن السلع أضعافًا مضاعفة بسبب الاحتكار.

المفارقة المرة أن الاحتلال وحماس، رغم كل لغة التهديد المتبادلة، يحقق كل طرف مصلحته من استمرار الآخر. الاحتلال يبرر حصاره بوجود “حماس الإرهابية”، وحماس تبرر قبضتها الحديدية على غزة بأنها “تحمي المقاومة” وتواجه الاحتلال. وبين هذه الأكاذيب، لا تُطلق سوى الصواريخ في التوقيتات التي تخدم أجندات سياسية، بينما الرد الإسرائيلي يكون قصفًا عشوائيًا يحرق البيوت ويدفن الأطفال تحت الركام.

إن الغلابة في غزة أصبحوا أسرى لمعادلة قاسية: قصف ودمار من الخارج، وفساد وقمع من الداخل. لا يملكون القدرة على تقرير مصيرهم، ولا حتى حرية التعبير عن رفضهم. الحصار ليس فقط حصارًا جغرافيًا على المعابر، بل حصار فكري وسياسي على العقول، وحصار اقتصادي يقتل أي فرصة للحياة الكريمة.

ورغم هذه المأساة، لم تتوقف مصر يومًا عن القيام بدورها الإنساني والتاريخي تجاه غزة. عبر معبر رفح، ترسل مصر قوافل المساعدات الغذائية والطبية، وتفتح مستشفياتها لعلاج الجرحى، وتتحمل أعباءً سياسية واقتصادية كبيرة في سبيل إيصال الدعم إلى أهل غزة. والأهم من ذلك أن أكثر من 80% من هذه المساعدات مصرية خالصة، دفع ثمنها الشعب المصري من ماله الخاص، من قوت يومه، ومن جيوب الفقراء قبل الأغنياء، في ملحمة إنسانية قلّ أن تتكرر في هذا الزمن القاسي.

ومع ذلك، لا يتورع الخونة – من الصهاينة والإخوان – عن محاربة مصر وتشويه صورتها أمام العالم. نراهم يقفون أمام سفارات مصر في تل أبيب وبعض الدول الأوروبية، بل وحتى في بعض العواصم العربية، يرفعون الشعارات الكاذبة ويطلقون الاتهامات الباطلة، في محاولة يائسة للنيل من دورها المحوري في دعم الشعب الفلسطيني. هؤلاء الخونة يتناسون أن مصر كانت ولا تزال الحائط الأخير الذي يمنع سقوط غزة في الهاوية، وأنها رغم كل الضغوط والمؤامرات، تضع المصلحة الإنسانية فوق الحسابات السياسية. لكنهم يفضلون أن يكونوا أدوات رخيصة في يد من يتاجرون بالقضية، بدلًا من الاعتراف بدور القاهرة في إنقاذ الأرواح وفتح طوق نجاة وسط بحر من الدماء.

إن غزة ليست مجرد اسم على الخريطة، وليست مجرد مدينة محاصرة على شريط ساحلي ضيق، بل هي شاهد حي على أعمق أنواع الظلم الذي يمكن أن يعيشه شعب. هناك، يتنفس الناس الهواء الملوث برائحة البارود، ويشربون ماءً ممزوجًا بالملح والدموع، ويأكلون من قوت شحيح، كل لقمة فيه جاءت بعد عرق، أو بعد انتظار طويل في طابور معونات. هناك أطفال يولدون على صوت الانفجارات بدلًا من زغاريد الفرح، وأمهات يقفن على أنقاض بيوتهن يبحثن عن بقايا لعب أو صورة عائلية، لعلها تخفف من وجع الفقد.

الغلابة في غزة لا يعيشون فقط حصارًا على الأرض، بل حصارًا على الأمل. يعرفون أن السماء التي يرونها قد تمطر قذائف في أي لحظة، وأن الأرض التي يسيرون عليها قد تصبح حفرة من أثر صاروخ، وأن الباب الذي يطرقونه طلبًا للعلاج أو الغذاء قد يُغلق في وجوههم إذا لم يرفعوا الراية التي يطلبها الحاكم الداخلي.

ورغم كل هذا، ورغم أن أكثر من 80% من المساعدات التي تصل إليهم مصرية خالصة دفع ثمنها الشعب المصري من ماله الخاص، ورغم أن مصر فتحت معابرها ومستشفياتها وقدمت ما لم يقدمه أحد، نجد الخونة – من الصهاينة والإخوان – يخرجون أمام سفارات مصر في تل أبيب وبعض الدول الأوروبية وبعض العواصم العربية، يرفعون شعارات الكراهية ويطلقون الأكاذيب، محاولين طمس الحقيقة وتشويه الصورة، وكأنهم يريدون أن يُعاقب الشعب الذي مد لهم يده بالخير. هؤلاء الخونة، بلا ضمير ولا وطنية، باعوا دماء غزة في أسواق السياسة، ووقفوا في صف من يقتلونها كل يوم.

إن مأساة غزة ليست في الحصار وحده، بل في أن هناك من يطيل عمره عمدًا، ليظل ورقة على طاولة مفاوضات أو وسيلة لابتزاز الدعم الدولي. الاحتلال يستفيد من وجود سلطة داخلية عاجزة وفاسدة، والسلطة الداخلية تستفيد من استمرار الاحتلال لتحكم قبضتها على رقاب الناس. وفي المنتصف، يموت الغلابة بصمت، بلا جنازات رسمية، وبلا دموع على الشاشات.

غزة تنزف منذ أكثر من سبعة عقود، والجرح لم يلتئم، لأن كل من يدّعي أنه جاء ليضمده يزرع فيه سكينًا جديدة. ومع ذلك، يظل أهلها يقاومون بطريقتهم الخاصة: بابتسامة طفل وسط الركام، بامرأة تخبز الخبز على نار الحطب بعد أن دمر القصف فرنها، برجل يعود من دفن أولاده ليقف في طابور الخبز من جديد. هذه هي غزة الحقيقية، التي لا تستطيع لا قذائف الاحتلال ولا قمع الداخل ولا خيانة الخارج أن تكسرها، لكنها في الوقت نفسه، لا تستحق أن تبقى أسيرة في حظيرة الديابة.

ويومًا ما، مهما طال الزمن، سيفتح الباب، وسيتحرر الغلابة من القيدين معًا، وسيعرف العالم أن غزة لم تكن سجنًا بل مدرسة للصبر، ولم تكن حظيرة بل ساحة شرف، وأن من باعوها أو حاصروها سيكتب التاريخ أسماءهم في قوائم العار، بينما سيكتب أسماء الغلابة في قوائم الكرامة. ذلك اليوم قادم، وسيكون دم الشهداء هو القفل الذي انكسر، وصرخات الأمهات هي الجدار الذي تهدم، وعندها فقط… ستعود غزة لأهلها، بلا احتلال، بلا ديابة، وبلا خونة.