بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
منذ فجر التاريخ، والكعبة المشرّفة هي قبلة القلوب ومهوى الأفئدة، وبيت الله الذي جعله مثابة للناس وأمناً. وفي القرن السادس الميلادي، وقبل بعثة النبي محمد ﷺ بعدة سنوات، شهدت مكة حدثاً جللاً عُرف في التاريخ بـ”عام الفيل”، حينما قاد أبرهة الحبشي، والي اليمن من قِبل النجاشي، حملة عسكرية ضخمة لهدم الكعبة وتحويل أنظار العرب إلى كنيسة بناها في صنعاء أطلق عليها “القُلَّيس”.
بدأت القصة حينما رأى أبرهة أن العرب يقصدون الكعبة من كل فجّ، ويهملون كنيسته الفخمة التي بناها لينافس بها بيت الله الحرام. فاشتعلت في قلبه نار الحقد، وقرر أن يفرض هيبته بالقوة، وأعلن عزمه على هدم الكعبة وجعل الحج إليها من الماضي. جمع جيشاً عرمرماً، قيل إنه بلغ عشرات الآلاف من المقاتلين، وفي مقدمته الفيلة الضخمة، وأشهرها “محمود” الفيل العظيم الذي كان يُحسب له حساب في المعارك.
وقد زحف أبرهة شمالاً من اليمن مروراً بأراضي القبائل العربية، فحاولت بعض القبائل اعتراضه مثل قبيلة خثعم بقيادة نفيل بن حبيب، إلا أن تلك المحاولات انتهت بهزائم سريعة نظراً لفارق القوة الهائل، فأُسر نفيل نفسه وأُجبر على أن يكون دليلاً للجيش في مساره نحو مكة. وفي الطريق أيضاً اعترضته قبائل أخرى مثل بني كنانة وبني سليم، ولكنها لم تصمد أمام كثافة جنده وضخامة فيلته.
تذكر الروايات أن أغلب قبائل العرب لم تدخل في مواجهة مباشرة مع جيش أبرهة، بل تجنبته، خوفاً من بطشه، واعتقاداً أن القوة البشرية لن تصمد أمام جيش مدجج بالسلاح والفيلة. ولكن التاريخ لا يغفل الإشارة إلى أن بعض القبائل، بدافع من الحمية والغيرة على بيت الله، حاولت اعتراضه، حتى وإن كانت المحاولات يائسة.
ووصل أبرهة إلى مشارف مكة، وكان من عادة أهلها أنهم لا يخوضون حروباً دفاعية عن المدينة إلا عند الضرورة القصوى، إذ كانت مكة وادياً غير ذي زرع، وأهلها يعتمدون على التجارة وخدمة الحجيج، ما جعلهم يجنحون للسلم. جاء أبرهة ومعه جيشه الجرار، فأرسل عبد المطلب بن هاشم، سيد قريش، ليفاوضه، لكنه فاجأه حينما قال إنه لا يطلب منه سوى رد إبله التي أخذها جنود أبرهة، أما الكعبة فلها رب يحميها. كانت هذه الكلمات بمثابة إعلان إيمان مطلق بحماية الله لبيته.
وتحكي بعض المصادر أن أبرهة، رغم طغيانه، أُعجب بهيبة عبد المطلب ووقاره، وأمر برد الإبل إليه. لكن هدفه الأساسي لم يتغير، إذ أمر جنوده بالاستعداد لهدم الكعبة. ومع اقتراب ساعة الهجوم، وقبل أن يوجّه أبرهة أمره للفيل “محمود” بالتقدم، حاول نفيل بن حبيب أن يهمس في أذن الفيل ليثنيه عن السير نحو الحرم، فقيل إن الفيل برك ورفض أن يتقدم باتجاه مكة مهما ضُرب، لكنه كان يتحرك إذا وُجّه نحو اليمن أو الشام أو أي جهة أخرى.
وهنا وقعت الآية الكبرى التي خلدها القرآن في سورة الفيل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾، إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل تحمل حجارة صغيرة من سجيل، سوداء صلبة، بحجم العدس أو الحمص، لكنها كانت تصيب المقاتل فتنفذ من جسده وتخرج من الجهة الأخرى، حتى أصبحوا كالعصف المأكول. تحطم جيش أبرهة، وانتشر المرض بينهم، وتفرّق من بقي على قيد الحياة، وأصيب أبرهة نفسه بجروح وقروح متعفنة أخذت تنهش جسده حتى عاد إلى صنعاء يجر أذيال الهزيمة، ليلقى حتفه بعد فترة وجيزة، وقد تناثرت أوصاله واحداً تلو الآخر.
وتذكر بعض الروايات أن الطيور الأبابيل جاءت في أسراب متتالية من جهة البحر الأحمر، وأنها لم تكن من الطيور المعروفة للعرب، وكانت لها مناقير كالمناقير الحادة ومخالب قوية، وكأنها جنود من السماء لا تخطئ هدفها، وكان سقوط الحجارة على الجنود أشبه بوابل قذائف صغيرة ولكنها قاتلة، حتى أن من نجا من الإصابة المباشرة هلك بالأمراض التي انتشرت بعد ذلك.
لقد أثبتت هذه الحادثة أن موازين القوى ليست دائماً بيد الجيوش الجرارة، وأن حماية الله لبيته تفوق أي تقدير بشري. كما أظهرت أن بعض القبائل العربية، رغم إدراكها لضعفها أمام أبرهة، لم تتخلَّ عن شرف المحاولة والدفاع عن الحرم، حتى وإن كانت النتيجة هزيمتهم. وبين من اختار السلامة ومن حمل السيف، جاءت كلمة الفصل من السماء.
وختاما لذلك فإن حادثة الفيل لم تكن مجرد حدث عسكري أو مواجهة عابرة في تاريخ الجزيرة العربية، بل كانت علامة فارقة على أن هذا البيت له مكانة خاصة في الأرض والسماء، وأنه سيبقى مصوناً بحفظ الله مهما تكالبت عليه القوى.
نعم، اختارت أغلب القبائل السلامة وتجنبت مواجهة أبرهة، لكن بقيت في التاريخ أسماء رجال حاولوا، ودخلوا المعركة مدفوعين بإيمانهم وشرفهم القبلي، وإن انتهى أمرهم بالهزيمة والأسر.
أما قريش، فقد أدركت أن المعركة الحقيقية ليست بين سيوف ورماح، بل بين إرادة بشرية محدودة وإرادة إلهية لا تُقهر. لقد تجلّت قدرة الله في حماية بيته الحرام دون أن يُراق فيه دم غزير، وفي ذلك رسالة للبشرية جمعاء: أن الله إذا أراد أمراً هيأ له أسبابه من حيث لا نحتسب، وأن الطغيان مهما بلغ من القوة، فإنه ينهار أمام كلمة الحق وإرادة السماء.
ستظل حادثة الفيل شاهدة على أن الكعبة المشرفة ليست حجارة مكدسة، بل رمز للعقيدة ومهوى قلوب المؤمنين، وأنها ستبقى، ما بقيت السماوات والأرض، محفوظة بحفظ الله، آمنة مطمئنة، حرة من عبث العابثين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كما ستظل تذكيراً بأن الله يُسقط كبرياء الجبابرة بوسائل قد يراها البشر صغيرة أو غير متوقعة، لكنها في حقيقتها تحمل بصمة القدرة الإلهية المطلقة، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
وإذا كان أبرهة قد جاء مدججاً بالرجال والسلاح والفيلة، فإن النهاية كانت على يد طيور صغيرة، لتبقى العبرة خالدة: لا تغتر بالقوة المادية مهما عظمت، فهناك قوة أعظم لا تُرى بالعين، لكنها حاضرة دائماً، وهي قوة الله جل وعلا، الحامي لبيته، الحافظ لعهده، والمؤيد لعباده الصادقين.