الإمام الغزالي وموقفه من السياسة

بقلم الدكتور : عبدالرحيم قحيف
من علماء الأزهر والأوقاف

 

الإمام أبو حامد الغزالي ( ٤٥٠-٥٠٥) حجة الإسلام وعلم الأعلام انتفع بعلمه أهل المشرق والمغرب دافع عن الإسلام بقلمه ولسانه وكتبه ومؤلفاته شاهدة بذلك
رد على الطوائف الضالة والمنحرفة مثل الباطنية وغيرهم ورغم ذلك انتقده البعض نقدا عنيفا حيث لم يجد له موقفا من الحروب الصليبية من هؤلاء د/ذكي مبارك

يقول دكتور ذكي مبارك بعد أن ذكر كلمة عن الحروب الصليبية ( أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة ..لتعرف أنه بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل لحث أهل أوروبا على امتلاك أقطار المسلمين
كان الغزالي( حجة الإسلام غارقا في خلوته منكبا على أوراده لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة والجهاد! ) ..( الأخلاق عند الغزالي)

وفي هذا الكلام تجنٍ على الامام الغزالي فهل يُصدق أن الغزالي الذي جاهد أعداء الإسلام من باطنية وفلاسفة وغيرهم بقلمه ولسانه لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة والجهاد، كيف وهو الذي تحدث في كتبه عن الإمامة والأحق بها وأهميتها لإقامة الدولة وذكر أن القول بتعطيل الإمامة يُعتبر ( هجوما على الأحكام الشرعية وتصريحا بتعطيلها وإهمالها ويتداعى إلى التصريح بفساد الولايات وبطلان القضاة وضياع حقوق الله وحدوده وإهدار الدماء والفروج والأموال وجميع ذلك لا يتأدى على وفق الشرع إلا إذا صدر استيفاؤها من القضاة ومصدر القضاة تولية الإمام فإن بطلت الإمامة بطلت التولية) ..( فضائح الباطنية)
فهذا كلام في عمق السياسة يبين المفاسد التي تترتب على إهمال الإمامة والولاية كما أن له كتابا بعنوان ( التبر المسبوك في مناصحة الملوك) تحدث فيه عن حاجة الحاكم إلى أعوان صالحين وهم الوزراء فقال( اعلم أن السلطان يرتفع ذكره ويعلو قدره بالوزير إذا كان صالحا كافيا عادلا لأنه لا يمكن لأحد من الملوك أن يصرف زمانه ويدير سلطانه بغير وزير ومن انفرد برأيه ذل من غير شك)

ويرى أن الله قد أمر نبيه بالشورى فأخبر عن موسى عليه السلام بحاجته إلى وزير يعاونه ويشاركه في أمره وإذا لم يستغن الأنبياء عن الوزراء والمشورة واحتاجوا إليهم كان غيرهم من الناس إليهم أحوج) ..( التبر المسبوك في مناصحة الملوك)

كما تحدث فيما هو أبعد من ذلك فقد تحدث عن الأموال السلطانية وحكمها وحكم الأخذ منها

يقول الأستاذ الندوي( لقد كانت الحكومات في عصر الغزالي شخصية مستبدة وكان نقد السلاطين على سياستهم وأموالهم مجازفة بالحياة ومغامرة قد تؤدي إلى الحبس والإهانة وكل ذلك لم يمنع الغزالي من إبداء رأيه الصريح في أموال الملوك والسلاطين .. حيث يقول في الإحياء«إن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها فكيف لا والحلال هو الصدقات والفيء والغنيمة ولا وجود لها وليس مدخل منها في يد السلطان ولم يبقى إلا الجزية وإنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به»)

نستدل من كل ما سبق… أن الإمام الغزالي كان يدلو بدلوه في أدق الأمور السياسية بشجاعة وثبات وما ذكره د/ ذكي مبارك فوق أنه منافي الحقيقة فهو كلام لا يليق فمهما كان الأمر فلا يجوز أن يعلي من قدر بطرس ناسك ويستعين بالغزالي واوراده وخلوته وهو الذي طالما دافع عن الإسلام بقلمه ولسانه على أن خلوة الغزالي لم تعزله عن المجتمع وما يجري فيه بل كان عالما ومدركا لما حوله وليس جهاد العدو مقصورا على السيف فقط بل إن التعليم والتربية وإصلاح المجتمع يعتبر من الجهاد ،كما أن الغزالي (كان يركز على قوة الدولة حتى أنه يرى صحة إمامة السلطان الظالم إذا كانت له قوة إسناده وفي التعرض لخلعه فتنة ويركز على مهمة السلطان في إقامة الدين وحراسة البيضة وتوفير الأمن والأمان للمواطنين ولا يكون ذلك إلا بجيش قوي يحمي الدولة ) ..( الفكر السياسي عند الباطنية وموقف الغزالي منهم)

على أنه في الختام فإن صاحب هذا الاتهام ( ذكي مبارك لم يثبت على رأيه في الإمام حيث تراجع عنه وأصدر مقالا في مجلة الرسالة تحت عنوان « إليك أعتذر أيها الغزالي» بين فيه أن سبب هجومه على الغزالي هو الأذى الذي لحق به من جراء اشتراكه في الثورة المصرية فأثر ذلك في عقله وتفكيره وحمله على السخرية من الغزالي حيث يقول فعرفت أن الغزالي لم يكن جبانا وإنما كان من الحكماء وهل أخطأ ابن خلدون حين نهى العلماء عن الاشتغال بالسياسة وهل اخطأ محمد عبده عندما استعاذ بالله من مادة ساس يسوس؟ ثم تساءل قائلا دلوني على رجل واحد غمس يده في السياسة ثم سلم من الأقاويل والأراجيف)

رحم الله الإمام الغزالي و رضي عنه .