خطبة بالجمعة القادمة (إدارة الوقت مفتاح بناء الإنسان الناجح) للشيخ عماد غالي الأزهري


خطبة بعنوان
(إدارة الوقت مفتاح بناء الإنسان الناجح)
 إعداد الشيخ : عماد غالي الأزهري

30  محرم ١٤٤7 هـ / 25 يوليو ٢٠٢٥

 

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
edaret alwaqt emad gale

الحمد لله رب العالمين القائل في محكم التنزيل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62]، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وسندنا محمدًا عبد الله وسوله، القائل:  “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد:

أيها الإخوة المؤمنون:

يا من تسعى لبناء ذاتك، وتحقيق آمالك وطموحاتك، إننا نقف اليوم على أعتاب موضوع جليل، لا يقل أهمية عن أي ركن من أركان نجاح الإنسان وسعادته في الدارين، ألا وهو: (إدارة الوقت مفتاح بناء الإنسان الناجح) هذا المورد الثمين، الذي يمر بنا كالسحاب، إن لم ندركه ونحسن استثماره، تفلَّتت منا لحظاته، وتضيع سدى أيامه، فنتحول إلى مجرد متفرجين على قطار الحياة، وهو يمر بنا دون أن نكون جزءًا فاعلًا فيه، وهو لا يتوقف لأحد ينتظره، فإن لم تدركه ضاع عليك.

الوقت نعمة عظيمة ومسؤولية كبرى:

إن المتأمل في آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي المصطفى الرحيم صلى الله عليه وسلم يدرك عظمة الوقت ومكانته في ديننا الحنيف، فالوقت هو وعاء الأعمال، وميدان السباق إلى الخيرات، وقد أقسم الله تعالى بالوقت في مواضع عديدة من كتابه الكريم، فقال سبحانه: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1-3]، وأقسم بالوقت في صدر سورة الفجر، والشمس، والضحى، هذا القسم الإلهي يبرز لنا أن الخسارة المحققة هي في إضاعة العمر، وأن النجاة والفوز إنما يكونان باستغلال الوقت في الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر.

تأملوا معي قول الله تعالى، وهو يصور لنا عظيم نعمته علينا بتسخير الكون لأجلنا، ومن ضمنه هذا الوقت المنظم فقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 32-34]، هذه الآيات الكريمات تبرهن لنا أن تسخير الليل والنهار أي الوقت، هو من جملة النعم العظيمة التي لا يمكن إحصاؤها، والتي تستدعي الشكر والعمل الصالح.

لقد شبّه الحسن البصري رحمه الله الدنيا بالثلج الذي يذوب، والوقت هو الحرارة التي تذيب هذا الثلج، فكل لحظة تمر لا تعود أبدًا، وكما قال الشاعر:

دقات قلب المرء قائلة له   ***   إن الحياة دقائق وثواني

فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها   ***   فالذكر للإنسان عمر ثاني

  • هدي الإسلام في إدارة الوقت:

لقد جاء الإسلام ليضع لنا منهجًا متكاملًا لإدارة الوقت، منهجًا يستوعب جميع جوانب الحياة، هذا المنهح النبوي يتمثل في:

1- تقدير الوقت والوعي بقيمته:

لقد وجهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تقدير الوقت وبيان أهميته، فقال: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به”. إن هذا الحديث الشريف يجعلنا نستشعر أن العمر بأسره، والشباب خاصة، هما مسؤولية عظيمة سنُسأل عنها أمام الله، وهذه المسؤلية تشعر المسلم بقيمة وقته.

وفي هذا المعنى يأتي تأنيب الله تعالى للكافرين الذين ضيَّعوا أعمارهم في اللهو واللعب، ولم يقدروا قيمة أوقاتهم وأعمارهم في قوله: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: 37]، هذه الآية توبيخ لمن أضاع عمره في الغفلة، وقد أزيل عذره بعد أن أمهله الله ما يكفي للتذكر والعمل الصالح.

وهذا ما يؤكده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “أعذر الله عز وجل إلى امرىء أخر عمره حتى بلَّغَه ستين سنة”، وفي رواية أخرى: “من عَمَّره الله تعالى ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر”، أي: أزال عذره، ولم يبق له موضعًا للاعتذار عن التقصير إن لم يعي قيمة وقته، ولم يستغله في عمل الخير والصالحات، وهذا الحديث يشمل:

توضيح حقيقة العمر والمسؤولية: الحديث يكشف حقيقة أساسية تتعلق بعمر الإنسان، ومسؤوليته أمام الله، فبلوغ الستين عامًا ليس مجرد رقم، بل هو علامة فارقة لتحديد الأولويات، والرجوع إلى رب البريات.

وقوله: (أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ) قال ابن بطال: “أي أعذر إليه غاية الإعذار، الذى لا إعذار بعده، لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى، وترقب المنيَّة، ولقاء الله تعالى، فهذا إعذار بعد إعذار فى عمر ابن آدم، لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم إلا بعد الحجج اللائحة المبكِّتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حب الدنيا، وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه” [شرح صحيح البخاري لابن بطال]

تصحيح المفاهيم حول الأجل: كثير من الناس قد يغفل عن قيمة العمر، أو يظن أن له وقتًا طويلاً للتوبة، والعمل الصالح، هذا الحديث يوضح أن هناك نقطة زمنية (الستين عامًا) تُعدّ بمثابة إنذار، وتذكير بأن الأجل قد اقترب، وأن فرصة العمل قد بلغت ذروتها.

قال ابن حجر: “في الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل، وأصرح من ذلك: ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، رفعه: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك»، قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة: سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين، فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة” [فتح الباري].

قال الشاعر:

بَادِرْ شَبَابَكَ أَنْ يَهْرَمَا     ***     وَصِحَّةَ جِسْمِكَ أَنْ يَسْقَمَا

وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ    ***     فَمَا دَهْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْلَمَا

وَوَقْتَ فَرَاغِكَ بَادِرْ بِهِ      ***     لَيَالِيَ شُغْلِكَ فِي بَعْضِ مَا

وَقَدِّمْ فَكُلُّ امْرِئٍ قَادِمٌ      ***     عَلَى بَعْضِ مَا كَانَ قَدْ قَدَّمَا

إنه يرسخ مفهوم أن الحياة ليست عبثًا، وأن كل يوم يمر يقرب الإنسان من لقاء ربه، وأن العذر يرتفع بعد هذا السن.

لقد كان أسلافنا الصالحون أشد حرصًا على أوقاتهم منا على أموالنا، حتى قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي)، إنه إحساس عميق بقيمة كل لحظة تمر.

2- التنظيم والتخطيط لوقت الإنسان:

الناظر في حياة المسلم يدرك أن الإسلام قد رتب له أوقاته بأداء الصلوات في مواقيتها المحددة، فمن الفجر إلى الظهر، ثم العصر، فالمغرب، فالعشاء، هذه الأوقات الخمسة ليست مجرد أوقات صلاة، بل هي محطات لتنظيم اليوم، ومراجعة النفس، وتجديد العهد مع الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، وما ذلك إلا تخطيطًا لحياة المسلم.

وقد وعى سلفنا الصالح هذه الحقيقة، فقال الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما)، فكلاهما يجري بك نحو النهاية، فلتكن أعمالك الصالحة زادك.

ويروى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقسّم الليل ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم. هذا التخطيط الدقيق لأوقاته هو ما جعله يصل إلى هذه المكانة العلمية الرفيعة، وينهل من علمه الأجيال، إن التخطيط الجيد للوقت هو الذي يحول الأحلام الكبيرة إلى أهداف قابلة للتحقيق.

3- استغلال أوقات الفراغ فيما ينفع:

الفراغ هو نعمة قد يغفل عنها كثير من الناس، قال صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، الغبن هو الخسارة، فكم من فرص ضاعت، وكم من مواهب أهدرت، وكم من أوقات ضاعت، بسبب عدم استغلال أوقات الفراغ فيما ينفع!

لقد جسّد الحسن البصري رضي الله عنه هذه الحقيقة في قوله: (يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك)، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل. وقال أيضًا: (أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم) وهذا يبين مدى إدراكهم لقيمة العمر، وأن كل يوم يمر هو جزء من وجودنا يتلاشى.

فكر معي: بدلاً من ملء وقت الفراغ بالثرثرة أو التسويف، لماذا لا نستغله في تعلم لغة جديدة، أو ممارسة رياضة مفيدة، أو قراءة في مجال تخصصنا، أو حتى زيارة مريض، أو صلة رحم؟ كل هذه الأمور تضيف قيمة لحياتنا، وتجعلنا أكثر إنتاجية.

4- الموازنة بين الحقوق، وإعطاء كل ذي حق حه:

الإسلام يدعو إلى الموازنة بين حقوق الله، وحقوق النفس، وحقوق الأهل، وحقوق المجتمع. فليس النجاح هو الانكباب على جانب واحد، وإهمال الجوانب الأخرى، قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عندما بالغ في العبادة: “صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا”.

هذه الموازنة هي سر السعادة والنجاح الحقيقي، فالإنسان الناجح هو الذي يخصص وقتًا لعبادته، ووقتًا لعمله، ووقتًا لأهله، ووقتًا لراحته، ووقتًا لتطوير ذاته.

كيف نصبح سادة أوقاتنا؟

أيها الأحِبَّة: إن إدارة الوقت ليست ترفًا، بل هي ضرورة حتمية لبناء الإنسان الناجح في جميع جوانب حياته. فكيف نبدأ هذه الرحلة؟

1- ضع أهدافًا واضحة ومحددة: ما الذي تريد تحقيقه في يومك، في أسبوعك، في شهرك، في عامك؟ الأهداف الواضحة هي بوصلتك التي توجهك.

2- رتب أولوياتك: ليس كل ما هو مهم عاجل، وليس كل ما هو عاجل مهم. رتب مهامك حسب أهميتها وإلحاحها.

3- تخلص من مضيعات الوقت: حدد ما الذي يهدر وقتك دون فائدة، وحاول أن تقلل منه، أو تتخلص منه تمامًا.

4- استفد من الأجهزة الحديثة: هناك العديد من التطبيقات والأدوات التي تساعد على تنظيم المهام وتتبع الوقت.

5- خصص وقتًا للتعلم والتطور: النجاح لا يتوقف عند حد، خصص وقتًا يوميًا لاكتساب معرفة جديدة، أو تطوير مهارة لديك.

6- تذكر الآخرة: كلما شعرت بالفتور أو التسويف، تذكر أن وقتك هو عمرك، وأنك ستحاسب عليه.

 الخطبة الثانية: (خطورة التهاون في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الأفاضل:

تأملوا معي لوهلةٍ حال رجلين في هذا الزمان الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة بفضل مواقع التواصل الاجتماعي.

الرجل الأول: مسلم واعٍ بقيمة وقته، أدرك أن هذه المنصات أداة لا هدف، استخدمها بحكمة ورويَّة، للتعلم للتواصل الهادف، لنشر الخير، وللبحث عن الفرص التي تعينه على بناء ذاته وتنمية مجتمعه، أوقاته منظمة، وهدفه واضح، فكانت هذه المنصات جسرًا عبر به إلى النجاح والتميز في دينه ودنياه، وحقق ما يصبو إليه من أهداف سامية.

أما الرجل الآخر: فقد غرق في بحر هذه المنصات بلا وعي ولا هدف، تاه بين الإشعارات والمحتويات الزائفة، أضاع عمره في مشاهدة ما لا يرضي الله، والتدخل فيما لا يعنيه، بل ربما نشر ما يضر نفسه وغيره، سُرق وقته دون أن يشعر، وتشتت ذهنه، وتراجع عن أهدافه، فأصبح أسيرًا لشاشات لا تشبع، يصحو ويمسي على “لايكات” و”شير” لا تغني من جوع، ويدرك متأخرًا أنه أهدر أثمن ما يملك: عمره ووقته.

أيها الأحباب:

هيا بنا لنلقي الضوء على وجه آخر من أوجه إدارة الوقت في عصرنا، ألا وهو (خطورة التهاون في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي).

لقد أصبحت هذه المنصات جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وهي بلا شك نعمة عظيمة إذا أحسنا استخدامها، قربت المسافات، وسهلت التواصل، ويسرت المعرفة، ولكن، وكما هو الحال مع كل نعمة، فإن سوء استخدامها قد يحولها إلى نقمة، بل إلى آفة تلتهم الأوقات، وتشتت الأذهان، وتفسد القلوب.

ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”؟ فهل كل ما نراه أو ننشر أو نتفاعل معه على هذه المنصات يعنينا؟ وهل هو نافع لنا في دنيانا وآخرتنا؟

وتذكروا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، فكم من فراغ يُهدر اليوم في التصفح اللانهائي لمحتويات لا تضيف قيمة، بل تسرق الساعات والدقائق دون وعي منا؟ إنها خسارة فادحة في رصيد عمرنا الذي سنسأل عنه يوم القيامة.

لقد ندم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ندمًا شديدًا على اليوم الذي غربت شمسه، ونقص فيه أجله، ولم يزد فيه عمله. فماذا نقول نحن عن ساعات وساعات تمر بنا ونحن غارقون في بحور من المعلومات والصور والمقاطع التي لا تسمن، ولا تغني من جوع؟

أضرار الانهماك في مواقع التواصل تتجاوز ضياع الوقت:

إن خطورة التهاون في استخدام هذه المنصات لا تقتصر على ضياع الوقت فحسب، بل تمتد لتشمل جوانب أعمق:

1- الإضرار بالنفس والمجتمع: قد تؤدي المقارنات الزائفة مع حياة الآخرين المثالية على الشاشات إلى الشعور بالنقص، والقلق، بل والاكتئاب، كما أنها قد تضعف الروابط الأسرية والاجتماعية الحقيقية، فنقضي وقتًا أطول في العالم الافتراضي على حساب أهلنا وأصدقائنا.

2- مرتع الشائعات والأخبار المضللة: أصبحت هذه المنصات بيئة خصبة للشائعات، والأخبار الكاذبة، التي تنتشر بسرعة البرق، وقد تسبب البلبلة، وتؤجج الفتن، وقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].

3- انتهاك الخصوصية وحدود الأدب: التهاون في النشر أو التعليق قد يؤدي إلى انتهاك خصوصية الآخرين، أو التعدي على أعراضهم، أو الخوض فيما لا يحل. وهذا يتنافى مع ديننا الذي يأمرنا بغض البصر، وحفظ اللسان، والابتعاد عن الغيبة والنميمة.

كيف نصبح سادة أوقاتنا في عالم التواصل؟

أيها المسلمون، ليس المطلوب منا الانعزال عن العالم، أو هجر هذه التقنيات. المطلوب هو الوعي والمسؤولية في استخدامها:

ضع أهدافًا واضحة: قبل فتح أي تطبيق، اسأل نفسك: لماذا أفتحه الآن؟

كن انتقائيًا: لا تتابع كل شيء، ولا تتفاعل مع كل ما تراه. انتقِ المحتوى المفيد، والأشخاص الذين يضيفون لك قيمة.

ضع حدودًا زمنية: خصص وقتًا محددًا لاستخدام هذه المنصات، والتزم به.

عُد إلى حياتك الواقعية: خصص وقتًا كافيًا لعلاقاتك الأسرية، لأصدقائك، لهواياتك، لتعلم مهارات جديدة، للعبادة، ولكل ما يثري حياتك الحقيقية. تذكر قول الحسن البصري رضي الله عنه: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك”.

    إن مواقع التواصل الاجتماعي سكين ذو حدين؛ فإما أن نقطع به طريقًا إلى النجاح والمعرفة، أو نقطع به أوقاتنا وأعمارنا في لا شيء، النجاح الحقيقي هو في الموازنة، في أن نأخذ من هذه التقنية خيرها، ونحذر شرها.

فلنكن من الذين يدركون قيمة الوقت، ويستغلون كل لحظة فيما ينفع، ويحذرون من كل ما يضيعه أو يفسده. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم بارك لنا في أوقاتنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. آمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.