العلماء بين جناية الجهلاء وصمت العقلاء
29 يوليو، 2025
العلم والعلماء

بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو
( الأزهرى البابي الحلبي )
يا هذا!
أتراك تظن أن العلمَ باب من أبواب الجباية، يطرقه من شاء لينال الحطام؟
أم تُخيل إليك الظنون، فتجعل من العلماء أصحاب دنيا، لا أصحاب رسالة؟
فإن قلت إن العلماء قد أكلوا الحرام، فقد اجترأت على أمرٍ عظيم.
وإن قلت إنهم لم يُظلموا، فأنت أجهل من أن تُجاريك الحجة.
نبيت الليالي لا نُفكر بما نأكل، بل كيف نكمل الطريق، وقد غَلَبَنا الجهد، وغلبنا التعب، فلا نجد معينا، ولا راحما، ولا كافلاً.
طلبنا العلم، لا لنُفاخر، ولا لنتصدر، ولكن لأن نفوسنا أبت أن تكون من الغافلين، فأنفقنا من الجيب الخالي، وسهرنا حتى ابيضّت عيوننا، وضَعُفت أبداننا، وهرمنا قبل أواننا، في وقتٍ كان غيرنا ينعم بالراحة، ويقبض الأجور على الخواء.
ثم يأتي من لم يقرأ كتابا، ولم يسهر ليلةً في تحقيق مسألة، ليحكم علينا بجرة قلم!
أيُّ عقلٍ هذا، وأيُّ أدب؟
اتّقِ الله، يا صاحب الظن السيئ، فما أدراك أننا لم ننل من الأجر أضعاف ما ناله المجاهد في ميدان القتال، إذ لم تكن فتنة أشد على أهل العلم من هذه التي نعيشها، حيث أُهدرت كرامتهم، وسُلبت حقوقهم، وجُعلوا هم الجناة في كل نازلة، وهم أبعد الناس عن الجناية.
وإن في الأمة قوما لبسوا ثياب العلماء، وتسربلوا برداء التدين، ولكنهم باعوه للسياسة والمصالح.
فهل يُحاسَب أهلُ الإخلاص بصنيع المتربحين؟
وهل يُقاس معدن الذهب بما غطّاه من غبار الحديد؟
لماذا – كلما فشلت الثورات، أو تمادت الأزمات، أو فسد القرار – جعلتم اللائمة على العلماء؟
هل كانوا هم أرباب السلاح؟
هل جلسوا في كراسي القرار؟
أم أنكم تبحثون عن كبش فداء، فتجدون في العلماء الضحية الأسهل، لأنهم لا يردّون السبَّ بالسبّ، ولا التهمة بالشتيمة؟
إن العلماء غُيّبوا، ولم يغيبوا.
أُبعدوا عن المشهد، لأنهم لم يُجاملوا، ولم يرضخوا، ولم يبيعوا ضمائرهم كما باعها غيرهم.
ثم تتهمنا بأكل الحرام، ونحن لا نكاد نجد قوت يومنا؟
إن الأوقاف التي أُنشئت لطلبة العلم، قد ذهبت إلى غير أهلها، وسُرقت من أهلها سرقةً لم يرتكبها لصّ، بل ارتكبها قانون، وباركها صمت!
أما علمت أن العالم حين يظهر عليه أثر النعمة، يُحسد؟
وحين يسكن بيتا مستورا، يُتَّهم؟
وحين يركب سيارةً معقولةً، يُشتم؟
وكأن الفقر عندكم هو شرط الإيمان، وكأن البؤس هو الحجة على الصدق، وهذا ما لا يقوله عقل، ولا يرضاه دين!
وإذا سألت: أين العلماء؟
فلتعلم – وليعلم أهل حلب – أن علماءهم ليسوا من يظهرون على الشاشات، بل هم من تربّوا على أيدي أهل التربية والتزكية، فحفظوا ألسنتهم عن الفحش، وحفظوا قلوبهم عن الكبر، وسكتوا حين وجب السكوت درءا للفتنة، لا ضعفا عن الرد.
علماؤهم هم الذين واجهوا الطغيان بصدورهم، لا بسيوفهم، وصبروا مع الناس في الحصار والجوع والفقر، ثم جُوزوا على ذلك بالتشويه، والتهم، والتغييب.
علماؤهم لم ينساقوا إلى المهاترات، لأنهم يعلمون أن دماء الناس أغلى من الردود، وأن حفظ الجماعة أولى من كسب الجدل، فسكتوا عن اللغو، وسُبّوا لأنهم سكتوا.
وهكذا يُعامل طالب العلم عند قومٍ لم يعرفوا قدره:
إن سكن كوخا، قيل: هذا جاهل.
وإن سكن بيتا، قيل: هذا خائن.
وإن ظهر عليه أثر النعمة، قيل: باع دينه.
وإن لبس ثوبه المهترئ، قيل: يبتذل نفسه ليكسب تعاطف الناس!
فلا عجب – بعد ذلك – أن يُهجر المسجد، ويُخلى المنبر، وتَفْسُد الأخلاق، وتفشو الفوضى، ويُترك الناس هملاً، لا يعظهم واعظ، ولا يُقيمهم عالم، لأن شيخهم قد نُحِّي عن موضعه، وأُهين في بلده، وشُوّهت صورته في عيون من أحبوه.
علماؤهم…
هم النور الذي أُطفئ عمدا، والكلمة التي أُقصيت لأنها صدق، والصورة التي أُخفيت لأنها تذكّر بالله.
ولو أردتُ، لأحصيتُ من أفعالهم خيرا لا يُحد، ومن مواقفهم ما يُسطَّر بماء العيون، ولكن الأقلام الآن تُكتب بمداد السياسة، لا بمداد العدل.
وإن مما يُؤسَف له، أن الأنظمة التي حكمتنا قد آثرت اللعانين والشتامين، وأقصت أصحاب الوجوه المنيرة، والكلمات المضيئة، لأنهم خطرٌ على الجهل، كما أن الشمس خطرٌ على الظلام.
فلا تُزايد على أهل العلم، فإنك لا تملك أن تكتب تاريخا، ولا أن تمحو شمسا.
وإن كنت لا تُبصر نورهم، فليست العيون عمياء، ولكن القلوب التي في الصدور.