مريم الصوفية التي لم تُسمَّ بهذا الاسم


بقلم الأستاذة سيدة حسن

 

في زمنٍ لم تكن فيه زوايا للصوفية، ولا طرق معروفة، ولا أوراد متداولة،كانت مريم تسكن محرابها، تأكل من رزقٍ ينزل من السماء،تناجي ربًا لا تراه… لكنها كانت معه، وهو معها.
﴿كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا﴾
سألها: أنَّى لكِ هذا؟ فقالت بثقة العارفين: هو من عند الله.

فيا لها من إجابة، تلك أولى صفات السالكين:
ثقة في الله، ورضا بما قُسِم، لا شكوى، لا طلب، لا جدال تسليمٌ كامل،إعتزالها عن الناس لم يكن هروبًا، بل قُربٌ من الله فلما ناداها نداءُ السماء، تطهَّرت بعزلتها: ﴿فاتخذت من دونهم حجابًا﴾

تركت الدنيا وما فيها، لا خبز ولا بشر، وبقيت مع الله كان خلوة تزكية، لا عزلة تخلٍّ صفاءٌ قبل النفخة، واستعداد لحمل الغيب في رحمٍ طاهر هكذا يتصوف المتصوفون، لا بهروب من الدنيا، بل بتحرر منها.

ولما جاءها المخاض بلا زوج، بلا أهل، بلا سند،لم تقل “لماذا أنا؟”، لم تحتج، لم تصرخ، دموعها كانت من ضعفٍ بشري، لكن صبرها كان من نور يقينهافالصوفي الحق لا يشتكي، بل يخضع
البكاء في الخلوة ليس ضعفًا، بل خضوعٌ لله وحده.

وولدت عيسى عليه السلام،ولم تُدافع عن نفسها، لم تُجادل، لم تصرخ، بل قالت: ﴿إني نذرت للرحمن صومًا﴾
صومًا عن الكلام، أن تُتَّهم امرأة في عرضها، ثم تصمت وتترك دفاعها لطفلٍ حديث الولادة؟هذا ليس سكوتًا هذا تسليمٌ كامل، ذروة التصوف،حين تكون البراءة في القلب لا في اللسان.

اليوم، يُسارع الناس إلى الدفاع والتبرير،أما مريم، فكانت أعلم بالله منهم هل فهمنا نحن اليوم أن الستر الحقيقي هو ستر الله وأن الرضا لا يحتاج شرحًا بل قلبًا مطمئنًا؟!

لم يكن معها أحد، لكنها كانت تملك كل شيء،لا زوج، بلا أخ، بلا نصير وكان معها الله وكفى بالله وليًّا ونصيرًا جعل لها جدول ماء، وهزَّت جذع النخلة، وسقط الرزق،وخرج من بين يديها عيسى، كلمة الله، ليُحيي أمة.

هكذا يُكرِم الله من صدق، ومن تطهَّر، ومن خاف مقامه،وهكذا يُعلي مقام الخفاء فوق الزهورلم تكن داعية، لم تكتب كتابًا، لم تُلقِ خطبة،لكنها علّمت العالم الحياء، والسكينة، والعبودية الخالصة. الصمت المتكلم…الحياء النوراني…العزلة المعمّدة باليقين .

وفي لحظة الولادة :

حين جاءها المخاض، والرحم يئن، والجسد يرتجف من الألم،
لم يكن بجوارها طبيب، ولا أم حنون، ولا ذراع تُسندها
كانت وحدها في صحراء خاوية، تحت جذع نخلة يابسة.
﴿فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا﴾

صرخة خرجت من أضعف نقطة في قلبها :
لكنها ما كانت شكوى، بل نداء خفي لله أن يربت على قلبها فجاءها اللطف من الغيب: ﴿فناداها من تحتها ألا تحزني، قد جعل ربك تحتك سريًّا﴾

أتاها الماء، وأينع النخل اليابس،وجاءها رزق السماء، وطمأنينة القلب، ولم تُترك وحدها، بل أحاطها الله برعايته وكفايته

الخاتمة:

يا كل امرأة تشتاق لله، وتبحث عن نورٍ في زحام الحياة تذكّري مريم، التي لم تكن نبية، ولا صاحبة شريعة،لكنها بلغت مقامًا علّم الدنيا الصمت العابد، والخلوة العامرة، والرضا الصامت.

كوني مريم بقلبك، بطهرك، بخضوعك، بثقتك في الله،بتسليمك في وقت العسر،ففي قلب كل امرأة محراب،وفي كل دمعة صدق باب مفتوح للسماء.