خطبة الجمعة القادمة (الاتحاد قوّة) للشيخ عماد غالى الأزهرى
15 يوليو، 2025
خطب منبرية

إعداد الشيخ : عماد غالي الأزهري
(من أئمة دفعة الإمام محمد عبده رحمه الله)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها المسلمون عباد الله:
يا من جمعنا الله بهم في بيته الطاهر على طاعته، هل سألتم أنفسكم يومًا: ما هو السر الكامن وراء صعود الأمم وهبوطها؟ ما هو القاسم المشترك بين الحضارات التي ازدهرت، وتلك التي اندثرت؟ هل هو مجرد قوة السلاح؟ أم عظمة الاقتصاد؟ أم بريق التكنولوجيا؟
دعوني اليوم أُحدثكم عن قوة لا تُضاهى، عن سرٍّ لو تمسكنا به كأمة لن نُقهر أبدًا، هذا السر هو (الاتحاد قوة).
إن ديننا الحنيف ليس مجرد شعائر تُؤدَّى، بل هو منهج حياة كامل وشامل، منهج أنزله الخالق العظيم لتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة، ومن أعظم أركان هذا المنهج، وأكثرها نفعًا في عصرنا هذا: هو مبدأ الوحدة والاتحاد.
أليس الله تعالى يقول في كتابه العزيز قولًا يرتج له الوجدان: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، تأملوا هذه الآية يا كرام (حبل الله) هو هذا الدين العظيم، القرآن والسنة، والاعتصام بهما جميعًا هو سبيل النجاة، هل يعقل أن تأمرنا آية بهذا الوضوح بالتوحد والاعتصام، بينما نُصِرّ نحن على التفرق؟
انظروا إلى تاريخنا: كيف كانت العرب قبل الإسلام؟ كانت قبائل متناحرة، يتقاتلون لأتفه الأسباب، يعيشون على شفير الهاوية، ولكن عندما أشرق نور الإسلام، وامتثلت تلك القلوب لوصية الله، وتآلفت بالإيمان، تحولوا من شتات وضعف إلى أمة قادت العالم، وأقامت حضارة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، هل كان هذا ليتحقق بغير الاتحاد؟ أبدًا!
-
الاتحاد في نبض الرسالة النبوية:
نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أكد على هذا المبدأ مرارًا وتكرارًا، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ” [رواه البخاري (481)، ومسلم (2585)]، أمعنوا النظر في هذا التشبيه البليغ، هل يمكن لبنيان أن يصمد إذا كانت أحجاره متناثرة، لا يربطها رباط؟ قوته في تلاصقها، في تماسكها، في أن يُسند بعضها بعضًا، هكذا يجب أن نكون، لبنات صلبة في بنيان أمتنا.
ويزداد التشبيه قوة وجمالًا في قوله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” [رواه مسلم (2586) من حديث النعمان بن بشر رضي الله عنه]، فلو أصاب قدمك أذى، هل يظل رأسك وقلبك مرتاحين؟ كلا! يتألم الجسد كله، وتسهر العيون، وترتفع الحرارة، هذا هو الإحساس الحقيقي بالاتحاد، أن يتألم قلبك لما يصيب أخاك المسلم، سواء كان قريبًا منك، أو في أقصى بقاع الأرض.
ولقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ حتى في أبسط أمور حياتنا في الأكل والشرب، فقد جاء بعض أصحاب النبي رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه: “يا رسول الله، إنا نأكل، ولا نشبع”، فماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: “فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ, قَالَ: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ, وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ, يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ” [رواه أبو داود (3764)، وابن ماجه (3308) من حديث وحشي بن حرب رضي الله عنه] هذا حديث عظيم، يوضح لنا أن البركة حتى في الرزق، في الطعام، تأتي بالاجتماع لا بالتفرق، فما بالكم ببركة الأمة كلها إذا اجتمعت قلوبها، وتوحدت كلمتها؟
ولم يتركنا النبي صلى الله عليه وسلم دون تحذير صارم من عواقب التفرق، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» [رواه أبو داود (547)] يا الله! الشيطان يستحوذ على القلوب المتفرقة، تمامًا كالذئب الذي يفترس الشاة البعيدة عن القطيع. فمن أراد السلامة والنجاة، فليلزم الجماعة!
وهذا ما أكده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مقتديًا بنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث خطب بالجابية فقال: “يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «…عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ» [رواه الترمذي (2305) وقال: هذا حديث حسن صحيح] الشيطان لا يقوى على الجماعة، بل يبتعد عن الاثنين، ويلتصق بالمنفرد، ومن أراد الفوز بالجنة، فليكن جزءًا من الجماعة، لا منفردًا متشتتًا.
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» [رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على مسند أبيه (18449)] إنها حقيقة بسيطة وعميقة في آن واحد، الرحمة في الاجتماع، والعذاب في التفرق، وإذا كان أهل الباطل يتجمعون من أجل نصرة باطلهم، فأولى ثم أولى بأهل الحق أن يتضامنوا ويتحدوا، لإحقاق الحق، وإزهاق الباطل.
-
التحذير من الفرقة لأنها سبب كل هلاك:
أيها الأفاضل:
لقد صدق الشاعر حين قال:
كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى *** خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرًا *** وإذا افترقن تكسرت أفرادا
هذه ليست مجرد كلمات منسوجة، بل هي حقيقة مُرة نراها تتجسد في واقعنا المعاصر، انظروا إلى الدول التي تقدمت وازدهرت، كاليابان وألمانيا بعد الحروب العالمية دُمرتا بالكامل، لكن ما الذي جعلهما تنهضان من الركام أقوى مما كانتا؟ إنه العمل الجماعي، وتوحيد الجهود، والنظر إلى مصلحة الوطن، وتناسي الخلافات من أجل الهدف الأسمى.
وفي المقابل، كم من البلدان تملك من الثروات والموارد ما يكفيها وزيادة، لكنها تتخبط في مستنقع التخلف والضعف؟
السبب واضح كالشمس: الفرقة، التنازع، الانشغال بالصغائر على حساب الكليات، أليس الله قد حذرنا من ذلك بقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]؟ (تذهب ريحكم) أي تذهب قوتكم، هيبتكم، كرامتكم، وهذا ما يحدث تمامًا.
ولقد جاء التحذير القرآني الأشد وضوحًا في سورة الروم، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 31، 32]، هذه الآيات الكريمة ترسم لنا صورة مؤلمة للمفرقين لدينهم، الذين تحولوا إلى شيع وأحزاب، وكل حزب يظن أنه على الحق المطلق، ويفرح بما لديه، غافلًا عن الوحدة الكبرى، إن التفرق هنا لم يُنسب للمشركين لمجرد كفرهم، بل لأن التفرقة في الدين والتنازع على أصوله هو من سماتهم، وهو ما يضعف الأمة ويُعرضها للانهيار، فهل نختار أن نكون من الموحدين المتحدين، أم من المتفرقين الذين يفرقون دينهم بأيديهم؟
يا أحبابي: دعوني أُصارحكم بأمرٍ لطالما كان سلاحًا ماضيًا في أيدي أعداء هذه الأمة منذ زمن بعيد، إنه الشعار الخبيث الذي رُفع في وجه كل أمة أرادوا تشتيت شملها، وإضعاف قوتها: (فَرِّقْ تَسُدْ) إنها استراتيجية شيطانية، هدفها بث بذور الشقاق والخلاف بين الأفراد والجماعات والشعوب، يدخلون من أي ثغرة مثل: خلافات مذهبية، عرقية، سياسية، أو حتى اجتماعية بسيطة، فيغذونها ويكبرونها حتى تصبح شروخًا عميقة، تنهش في جسد الأمة وتُضعفها من الداخل، هم يعلمون جيدًا أن قوة الأمة في وحدتها، وأن ضعفها في تفرقها، فلماذا نُسلم لهم هذا السلاح، ونُعطيهم ما يريدون بأيدينا؟
-
الاتحاد السبيل إلى رحمة وفضل الله:
ما هو الحل؟ هل هو مجرد أحلام بعيدة؟ لا والله! الحل يبدأ من هنا، من هذا المسجد، من كل واحد منا، فالله تعالى وعدنا وعد الحق بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175]، هذا هو الطريق أيها الأحباء: الإيمان الصادق بالله، ثم الاعتصام به، والاعتصام بحبله المتين الذي هو هذا الدين العظيم، والذي يدعونا إلى الوحدة، جزاؤنا ليس فقط الرحمة والفضل في الآخرة، بل الهداية إلى صراط مستقيم في دنيانا، صراط يجنبنا الفشل والانهيار.
-
كيف نحول هذا المبدأ العظيم من مجرد خطبة تُلقى إلى واقع نعيشه؟
1- ابدأ بنفسك: راجع قلبك، هل تحمل غلًا أو حقدًا على أخيك المسلم؟ هل أنت مستعد أن تمد يد العون لمن حولك، حتى لو اختلف معك في الرأي؟ التغيير يبدأ من الداخل، من نقاء القلب.
2- في بيتك: اجعل أسرتك نموذجًا للوحدة والتفاهم، علّم أبناءك قيمة التعاون، التسامح، والعمل كفريق، البيت المتماسك هو اللبنة الأساسية لمجتمع قوي.
3- في مجتمعك: لا تكن بمعزل عن محيطك، شارك في المبادرات الخيرية، بادر بزيارة مريض، واسأل عن جارك، عندما ترى مشروعًا يخدم الصالح العام، كن جزءًا منه تذكر: “يد الله مع الجماعة”.
4- ركز على الأمور المشتركة بيننا: نحن نعبد إلهًا واحدًا، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة، هذه المشتركات العظيمة يجب أن تكون أساس اتحادنا، وأن تجعلنا نتجاوز أي خلافات فرعية أو جزئية، فالمشتركات بين المسلمين أكثر بكثير من نقاط الاختلاف التي قد يركز عليها البعض لتفريق الصفوف.
أيها الأفاضل: إن قوتنا الحقيقية تكمن في وحدتنا، عزتنا في تآلفنا، فلنجعل من هذه اللحظة نقطة انطلاق جديدة لنُصالح قلوبنا، ولنُصلح ذات بيننا، ولنتحد على كلمة الحق، عندها فقط سنرى أمتنا تنهض من جديد، وتستعيد مجدها التليد بإذن الله تعالى.
اللهم وحد صفوفنا، وألف بين قلوبنا، واجعلنا من عبادك الصالحين المتحدين على الحق، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-
الخطبة الثانية: التحذير من العنف الأسري
أيها المسلمون، ويا من تبنون الأوطان، وتبدأون البناء من الأسرة:
بعد أن تحدثنا عن أهمية الاتحاد على مستوى الأمة، دعونا ننزل بهذا المفهوم إلى أساس المجتمع ولبنته الأولى: الأسرة. فالأسرة هي السند، وهي الملاذ الآمن، وهي الحصن الذي ينمو فيه الأبناء ويتربون، لكن ماذا لو انقلب هذا الحصن الآمن إلى ساحة للصراع والعنف والغضب والضرب والإهانة والشدة والغلظة؟!
إن العنف الأسري بأشكاله المتعددة سواء كان جسديًا، أو لفظيًا، أو نفسيًا، هو آفة خطيرة تهدد كيان الأسرة والمجتمع بأسره، إنها ليست مجرد مشكلة فردية، بل هي مرض اجتماعي ينخر في أجساد الأسر، ويصيبها بالوهن والضعف، فالبيت الذي يجب أن يكون مصدر سكينة وطمأنينة، إذا تحول إلى مكان للخوف والقلق، فكيف سينشأ فيه جيل سوي قادر على بناء المجتمع؟
تخيلوا طفلًا يرى أباه يضرب أمه، أو أمه تصرخ في وجه أبيه بألفاظ نابية، أو حتى يسمع الشتم والسباب بين أفراد الأسرة، هذا المشهد يتكرر يوميًا أمام عينيه الصغيرتين، ما الذي سيتعلمه هذا الطفل؟!
سيتعلم أن العنف هو أسلوب حياة لحل المشكلات، أو أنه جزء طبيعي من العلاقات، هذه التجارب تزرع بذور الخوف، وعدم الأمان في نفسه، وقد تؤدي إلى اضطرابات نفسية خطيرة في المستقبل، وقد يتحول هو نفسه إلى مُعنِّف عندما يكبر، أو قد يصبح ضحية سهلة للعنف.
الإسلام دين الرحمة والمودة حذر أشد التحذير من كل أشكال العنف والإيذاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا ضرر، ولا ضرار” [رواه ابن ماجه (2340)]، وهذا المبدأ العظيم يشمل كل أشكال الضرر، ومنها الضرر داخل الأسرة.
لقد أمرنا الله تعالى بالمعروف في معاملة الأزواج والزوجات والأبناء، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَر” [رواه مسلم (1469)]، المودة والرحمة هما أساس العلاقة الزوجية، لا العنف والشدة.
ولكي ندرك عظمة هذا الدين في ترسيخ الرحمة، حتى في أبسط تفاعلاتنا الأسرية، فلنستمع إلى هذا الحديث العظيم، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا، وَاللَّهِ! مَا نُقَبِّلُ” فماذا كان رد فعل النبي الرحيم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ” وفي رواية: “مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ” [رواه مسلم (2317)].
تأملوا هذا الموقف! النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقرّ الجفاء والقسوة في التعامل مع الأطفال، بل ربطها بنزع الرحمة من القلب، فالقسوة مع الأبناء، عدم احتضانهم، عدم تقبيلهم، هذه كلها مظاهر تدل على غياب الرحمة التي هي جوهر ديننا، وأساس بناء الأسرة السعيدة، فإذا كانت القبلة البسيطة تُعد مظهرًا من مظاهر الرحمة التي تُعزز الروابط، فكيف بالعنف والضرب والسب والشتم داخل البيت؟ إنها تُدمّر الرحمة من جذورها!
والشاعر يقول مُحذرًا من العنف الأسري:
فبيتٌ بلا رِفْقٍ وحبٍّ قديمِ *** سيغدو سجينَ الشتاتِ الأليمِ
فالعنف الأسري يتنافى تمامًا مع قيم الإسلام ومبادئه، إنه يهدم الثقة، ويزرع الخوف، ويفكك الروابط الأسرية التي هي أساس صلاح المجتمع، فكيف يمكن لمجتمع أن ينهض وأسسه مهتزة، وعلاقاته متوترة؟
إذا نظرنا على أرض الواقع نرى صورًا مؤسفة للعنف الأسري، قد تكون زوجة تتعرض للضرب والإهانة بصمت، أو طفل يعاني من الإهمال والقسوة التي تتركه بعقد نفسية مستديمة، أو حتى أب يتلقى الإهانة من أبنائه، هذه ليست مشاهد من أفلام، بل هي واقع يعيشه الكثيرون في مجتمعاتنا، وللأسف فإن الصمت على العنف الأسري يساهم في انتشاره، فالمجتمعات التي تُغلِق أعينها عن هذه المشكلة تدفع الثمن غاليًا في المستقبل، من خلال تزايد الجريمة والانحراف والعقد النفسية.
يا عباد الله: تذكروا أن كل فرد في الأسرة له حقوق، وعليه واجبات، الزوجة لها حقوق، والزوج له حقوق، والأبناء لهم حقوق، ومن حق كل فرد أن يعيش في بيئة آمنة، خالية من الخوف والإهانة، علينا أن نكون قدوة حسنة لأبنائنا في التعامل بالرحمة والمودة والاحترام، علينا أن نتعلم فن الحوار، وحل المشكلات بطرق سلمية، وأن نلجأ إلى العقل والحكمة، لا إلى القوة والعنف.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اجعل بيوتنا عامرة بالحب والمودة والرحمة، واجعلنا من خير الناس لأهلينا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
إعداد: عماد غالي الأزهري