خالد بن الوليد وعبقرية الارتداد بين مؤتة والنكسة وصدام حسين والحرب العالمية


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

في صحراء الأردن، وعلى مقربة من أطراف الشام، وقف جيش المسلمين الصغير في مواجهة أحد أعظم جيوش الأرض آنذاك، جيش الروم، المدعوم بعشرات الآلاف من المقاتلين من العرب الغساسنة، في غزوة مؤتة الشهيرة التي لم تكن نزهة عسكرية، بل كانت نقطة فاصلة في تاريخ التخطيط الحربي والارتداد التكتيكي. كان المسلمون يعلمون أن المعركة غير متكافئة، وأن المصير سيكون صعبًا، لكنهم لم يتراجعوا، بل أرسل النبي ﷺ جيشًا فيه خيرة القادة، وكان ترتيب القيادة واضحًا: زيد بن حارثة، فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، فإن قُتل فليختر المسلمون عليهم رجلاً. وكانت الشهادة قدر الثلاثة الأوائل، ليختار الصحابة بعد ذلك خالد بن الوليد، الفارس الذي لم يكن قد أمضى في الإسلام سوى أشهر معدودة، لكنه كان يحمل عقلية القادة وجرأة المقاتلين ودهاء القادة العسكريين على مر العصور.

عندما تولى خالد بن الوليد القيادة وجد نفسه أمام معضلة لا تقبل التأجيل: إما الإبادة الكاملة لجيش المسلمين، أو استخدام الحيلة والخطة للانسحاب بأقل الخسائر، وكانت الكارثة أن الروم كانوا يحيطون بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم، وبدت نهايتهم أقرب من أي نجاة. هنا ظهرت عبقرية خالد، فأعاد ترتيب الصفوف، وغيّر أماكن الألوية، وجعل الليل ستارًا لتحركاته، وأوهم العدو بأن مددًا جديدًا قد وصله، ثم بدأ سلسلة من المناوشات المنضبطة، التي فتحت له فجوة للانسحاب المنظم، ليعود بالجيش إلى المدينة مرفوع الرأس، ولينال بعدها لقبًا خالدًا على لسان النبي ﷺ: “سيف الله المسلول”. كانت تلك الحادثة أول وأشهر تطبيق عملي لفن “الارتداد الذكي” أو “الانسحاب التكتيكي”، وهو علم عسكري شديد الدقة لا يعرفه إلا القادة الكبار، ويستخدم عندما يكون الاستمرار في المعركة هو الفناء لا أكثر.

مرت القرون، واحتفظت ذاكرة الحرب في كتب التاريخ وعلوم الاستراتيجيا بما فعله خالد، فدرسته أكاديميات كبرى في أوروبا وأمريكا، واستلهمت منه الخطط. وقد أشار المؤرخ العسكري الإنجليزي “ريتشارد غابرييل” في كتابه “خالد بن الوليد: عبقريّة القائد الإسلامي” إلى أن خطة خالد في مؤتة تعد واحدة من أذكى الخطط الحربية في التاريخ القديم، وأنها تستحق الدراسة في مدارس الحرب الحديثة. ومن اللافت أن القادة الألمان في الحرب العالمية الثانية، خاصة الجنرال “إروين رومل”، الملقب بثعلب الصحراء، قام في حملاته في ليبيا وتونس بشيء مماثل: فقد أيقن أن قوات الحلفاء بدأت تطوقه، لكنه لم ينتظر الفناء، بل نفّذ انسحابًا مموهًا ومنظمًا، غير مواقع المدافع والعربات وأعاد تمركز القوات، ونجح في الحفاظ على العدد الأكبر من قواته. وقد أورد المؤرخ العسكري “بول كارل” في كتابه “رومل: استراتيجية الحرب في الرمال” إشارات إلى أن رومل كان قارئًا جيدًا لتكتيكات العرب والمسلمين، وأنه تأثر بعدة نماذج منها خطة خالد بن الوليد في مؤتة.

لكن ما أوجعنا كعرب، هو كيف نسينا خالد ونحن نواجه مصائر مماثلة. ففي حرب النكسة عام 1967، وحين بدأ الهجوم الإسرائيلي الكاسح على سيناء، لم يكن أمام القيادة العسكرية المصرية إلا الانسحاب التكتيكي، لكن ما جرى لم يكن سوى هروب جماعي، فقد تم ترك الدبابات والمدافع والطائرات والمدنيين على قارعة الطريق، وتمت إدارة الارتداد بجهل مطبق لا بخطة، فخسر الجيش المصري أكثر من 80% من قدرته، وترك أرض سيناء بالكامل في غضون أيام، وسالت دماء آلاف الشهداء على الرمال، وانهارت الروح القتالية، في هزيمة أطلقوا عليها “نكسة” ليخففوا وقعها، لكنها كانت فضيحة بكل المقاييس. ولو أن قائداً واحدًا فقط في الميدان تذكّر ما فعله خالد، أو طبّق خطته بحد أدنى من التنظيم، لكانت الخسائر أقل، وربما خرج الجيش في وضع أفضل، ولكانت الكرامة محفوظة حتى مع الانسحاب.

لكن القدر شاء أن يعيد التاريخ نفسه على نحو مثير للجدل، وهذه المرة في رمال الخليج، حين اجتاحت قوات صدام حسين الكويت في عام 1990، واحتلها بالكامل في أيام، ثم حاصرته قوات التحالف من البر والبحر والجو، ومع ذلك، حين قرر صدام أن ينسحب، لم يفعل ذلك بهروب جماعي، بل طبّق خطة انسحاب شبيهة إلى حد مذهل بخطة خالد، فجعل قواته تنسحب ليلاً في تشكيلات منسقة، واستغل الطرق الصحراوية والطرق المموهة، وسحب أغلب قواته إلى داخل العراق، بينما بقيت قوى التحالف مذهولة من كيفية نجاته بقسم كبير من جيشه، رغم تفوقهم الساحق. بل إن مجلة “شؤون عسكرية” الأمريكية علّقت في تقريرها الصادر في مارس 1991، أن خطة انسحاب الجيش العراقي تمت بـ”دهاء خالد بن الوليد”، وهي إشارة مباشرة لأصول تلك الفكرة في التاريخ العسكري الإسلامي.

وهنا يبرز السؤال المؤلم: لماذا لا يدرس قادة الحرب في الجيوش العربية اليوم فكر خالد بن الوليد وخططه العبقرية؟
لماذا تتصدر المشهد خطط غربية مستوردة بينما نملك في تاريخنا العسكري عقولًا قادت جيوشًا بلا تكنولوجيا، لكنها تغلبت على الظروف بما تملكه من عقل وجرأة وخيال؟ هل آن الأوان لنعيد تدريس خالد في كليات الحرب لا كمجرد بطل ديني، بل كاستراتيجي عالمي فذ؟ إن تجاهلنا لهذا الإرث لا يضر خالد، بل يضرنا نحن، ويجعلنا نكرر ذات الأخطاء وننزف من ذات الجراح.

ما فعله خالد لم يكن مجرد انسحاب، بل كان مدرسة استراتيجية تصلح لكل زمان. لقد فهم القتال بمنطق العقل قبل العاطفة، ووازن بين التضحية المجانية والتراجع الذكي، واستخدم أدوات الحرب النفسية، والخداع الحربي، والتحكم في الوقت والمكان. بينما ما نراه اليوم هو جنرالات لا يقرأون التاريخ، وقيادات تسير بجيوشها إلى التهلكة دون رؤية أو فهم. ومن المفارقات أن العدو يقرأ تاريخنا أكثر منا، ويستفيد من دروس قادتنا بينما نحن نطمرها في كتب مهملة، أو نعرضها في مشاهد تمثيلية دون أن نغوص في عمقها العسكري العظيم.

إن خالد بن الوليد لم يُهزم قط في حياته، لأنه لم يكن يقاتل بعاطفة فقط، بل كان يدرس الأرض، ويقرأ تحركات العدو، ويعرف متى يتقدم ومتى يتراجع، ومتى ينسحب ليحيا ليقاتل يومًا آخر. لقد خرج من مؤتة بجنود الإسلام ليكونوا نواة الفتح القادم، بينما خرج غيره من المعارك تاركًا وراءه الجثث والعار والأسى. لقد كان خالد عقلًا عسكريًا فذًا، وسيفًا لا ينكسر، وبوصلة لكل من أراد أن يفهم أن الانسحاب ليس هزيمة، إنما الهزيمة هي أن تبقى في الميدان دون خطة، حتى يأكلك العدو قطعةً قطعة. وهكذا، حين نتأمل ما جرى في مؤتة، وفي الحرب العالمية، وفي النكسة، وفي غزو الكويت، ندرك أن العقل العسكري ليس حكرًا على زمان ولا مكان، بل هو شعلة تنتقل لمن يحملها ويستحقها. خالد بن الوليد، الذي أبدع في أعقد لحظة، لم ينسحب هربًا، بل أنقذ جيشًا كان في طريقه للفناء، فخلده التاريخ، ورفعه النبي ﷺ، واستلهمت خطته جيوش العالم. بينما من لم يقرأ، ولم يتعلم، ولم يخطط، سقط تحت سنابك الهزيمة، وترك خلفه جثث الشهداء، ومرارة الذل، ووصمة التاريخ. وبينما خرج خالد مرفوع الرأس من مؤتة، خرجنا نحن من نكستنا مكسوري الظهر، وفي صمت العراق وارتداده ما يثير الدهشة، لأن الدرس كان أمامنا جميعًا، لكن قلة فقط هم من فهموا أن أعظم المعارك أحيانًا تُكسب حين تُنسحب بعقل لا بعشوائية. إن عبقرية خالد لم تكن فقط في سيفه، بل في عقله، في إدراكه أن النصر الحقيقي أحيانًا هو في أن تعود لتقاتل لاحقًا، لا أن تفنى على أرض لا ترحم. تلك هي الحكمة الغائبة، وتلك هي الراية التي ما زال الكثيرون عاجزين عن حملها.