من الهجرة إلى الحضارة

بقلم الدكتور : سيد نجم من علماء الأزهر الشريف 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد :

فلم تكن الهجرة النبويّة محض انتقال من مكة إلى المدينة، بل كانت لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية، وميلادًا لمجتمع لم تكتب الأرض له مثيلًا قبلها، مجتمعًا بنى أساسه على العقيدة قبل العصبيّة، وعلى الحب قبل السلطة، وعلى العدالة قبل القوّة.

ففي المدينة المنوّرة أرسى النبيُّ ﷺ القواعد، وغرس القيم، وصنع نموذجًا حضاريًا متكاملًا، حيث وحّد القلوب قبل توحيد الصفوف، فأخّى بين المهاجرين الذين تركوا الديار، وبين الأنصار الذين فتحوا القلوب قبل الأبواب، فتلاشى الفارق بينهم، وذاب حبُّ الذات في محبة الله، وحين تآلفت الأرواح على العقيدة، بنى النبيُّ ﷺ المسجد، وجعله مهدًا للعبادة، ومنبرًا للعلم، ومركزًا للشورى، فلا فرق بين غني وفقير، ولا تمييز بين عربي وأعجمي، بل كلُّ مَن دخل المسجد تظلل برحمة الله، وتنسم عطر الحب، وتربّى على خُلُق العدل .

ثم خطّ النبيُّ ﷺ ميثاق المدينة، دستورًا جامعًا، يشهد على سموّ القيم قبل سطوة القوانين، ميثاقًا حفظ الحق، وصان العهد، وجعل العدالة ميزانًا، وحوار الثقافات نهجًا، فلا ظلم لذمّي، ولا اعتداء على جار، بل الجميع شركاء في الوطن، متعاونون على البر، متراحمون على الحق، متراصّون على حماية القيم.

وحين تكتمل هذه الثلاثيّة: عقيدة توحّد، ومحبّة تؤاخي، وتنظيم يحمي، يتشكّل مجتمع خالد على جبين التاريخ، مجتمع ينبض بأنفاس الحق، ويزهر على مَحبة الخالق وخدمة الخلق، مجتمع يُعلّم الأجيال أنّ الحضارات الحقيقية ليست بعلوّ البنيان، بل بسموّ الإنسان، ولا بامتداد الأرض، بل بامتداد العدالة، ولا بوفرة المال، بل بوفرة الحب، وحينها تتحقق معجزة الإسلام على أرض المدينة، وتنطق كلُّ ذرّة من ترابها بأنّ كل مجتمع يأخذ من مشكاة النبوة، سيكتب له البقاء، وسيحفر له التاريخ مكانًا على مَرّ الزمان.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .